التأثيرات الطائفية للأزمة السورية في دول الجوار (صافيناز محمد أحمد)
صافيناز محمد أحمد
أخطر ما يمكن أن تؤدي إليه الأزمة السورية الداخلية الممتدة بين نظام الأسد القمعي والمعارضة الشعبية هي التداعيات المتوقع حدوثها على دول الجوار السوري: لبنان، وتركيا، والعراق التي "قد" تكون دولا مرشحة لمخاطر تمدد الصراع الداخلي في سوريا عبر الحدود إليها، خاصة أن تلك الدول تعاني وجود امتدادات عرقية ومذهبية وطائفية مشابهة إلى حد كبير للتركيبة المجتمعية السورية، مما سيؤثر بالضرورة في الاستقرار والأمن العام في تلك الدول.
وقد ارتبطت تداعيات الأزمة السورية على الجوار الإقليمي بأمرين، الأول يتعلق بعملية انتقال اللاجئين السوريين عبر الحدود، والثاني يتعلق بتحيز الطوائف العرقية أو المذهبية لمثيلتها من الطوائف السورية، وانعكاسات ذلك على المصالح الإقليمية للدول. أما إيران، كدولة جوار، فتخرج من موقع "التأثر" بتداعيات الصراع الداخلي في سوريا لتشغل موقع "المؤثر" في الصراع، بل والمتحكم في مساره إلى حد كبير، سواء باستمرار الدعم المادي واللوجيستي لنظام الأسد في مواجهة الأزمة داخليا وخارجيا، أو بتوظيف الورقة الطائفية السورية في لبنان بما يخدم مصالح أنصارها هناك، وفي تركيا بما يقوض من تحركات مناهضيها على الساحة الإقليمية.
أولا- تداعيات الأزمة السورية على لبنان:
يعاني لبنان، بحكم الارتباط التاريخي والجغرافي مع سوريا، تداعيات جمة أحدثتها الأزمة السورية الحالية على الاستقرار السياسي والأمني به، خاصة في مدينتي بيروت وطرابلس، خلال الأشهر القليلة الماضية، على خلفية حالة التباين التي يشهدها بين القوى السياسية والطوائف المختلفة تجاه ما يحدث في سوريا، والتي انعكست في تأييد السنة للمعارضة السورية، بينما تؤيد الشيعة – وفي مقدمتهم حزب الله – نظام الأسد، الأمر يبدو أكثر تأثيرا، إذا ما نظرنا إلى حجم اللاجئين السوريين للحدود اللبنانية الذي يصل إلى أربعين ألفا، معظمهم من السنة، مما "قد" يؤثر بالضرورة في تغيير التوازنات السياسية بين المكون الطائفي في بعض المدن اللبنانية، حتي تلك التي تتسم مثلا بأغلبية مماثلة لنوعية المذهب الديني أو السياسي للاجئين السوريين. اتضح هذا المضمون في الأحداث التي شهدتها مدينة طرابلس ذات الأغلبية السنية، خلال شهري مايو ويونيو الماضيين، ثم في حالات الانفلات الأمني وما واكبها من اختطاف لعدد من اللبنانيين الشيعة من قبل عناصر تابعة للمعارضة السورية في مدينة حلب، أثناء عودتهم من إيران عبر الأراضي السورية، مما رأته قوى سياسية لبنانية "استهدافا طائفيا" لشيعة لبنان لتأييدهم النظام السوري.
تلك الأحداث تشير بالضرورة إلى خطورة الموقف في لبنان الذي بات متأثرا بوطأة ما يحدث في سوريا، مما يزيد المخاوف من دخوله دائرة الاحتقان الطائفي مجددا، خاصة في ظل استمرارية حالة التوتر في المشهد السياسي اللبناني بين فريقي 8و14 مارس، والذي ظل عنوانا للحياة السياسية اللبنانية منذ الخروج القسري للقوات السورية عام 2005، وحتي قبيل اندلاع الأزمة السورية الحالية التي كرست هذا التباين السياسي، حينما ساندت قوى 14 مارس المعارضة السورية، بينما ناصرت قوى 8 مارس بزعامة حزب الله نظام الأسد، وما حدث في طرابلس خلال أغسطس الماضي عكس حجم المخاوف الطائفية.
فالمدينة التي تتمتع بأغلبية سنية تحولت بحكم الموقع الجغرافي إلى ساحة تأييد خلفية للمعارضة السورية، وكانت شاهدا على اندلاع أول حالة اقتتال طائفي بفعل الأزمة السورية بين اللبنانيين السنة والشيعة العلويين، نتج عنها وقوع ضحايا من الجانبين، أعقبتها عمليات اختطاف لعناصر سلفية مؤيدة للمعارضة السورية، واعتصامات ذات طابع مذهبي في ساحة النور بالمدينة، ردا على استهداف قوات الأمن لتلك العناصر، ثم مواجهات في أحياء باب التبانة ذات الغالبية السنية، وجبل محسن ذات الغالبية العلوية، أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات من اللبنانيين. ثم جاء تقديم الحكومة السورية مذكرة اتهامات بحق لبنان إلى الأمم المتحدة، باعتباره "حاضنا لعناصر إرهابية من تنظيم القاعدة" تقوم بضربات عبر الحدود في سوريا، تعبيرا عن وجود محاولات حثيثة من نظام الأسد لتوريط الساحة السياسية اللبنانية في الصراع الدائر على الأراضي السورية، ومن ثم تصدير الأزمة للبنان بتداعياتها الحادة والسلبية على المكون الطائفي بها.
من السياق السابق، يمكن القول إن تداعيات الأزمة السورية على التفاعلات الطائفية في لبنان أخيرا تلقي بدلالات عدة لها تأثيراتها الواضحة في المشهد السياسي اللبناني، يمكن رصدها فيما يلي :
الدلالة الأولى تشير إلى أنه وعلى الرغم من عدم اتساع نطاق المواجهات التي تمت في لبنان، خلال شهر أغسطس الماضي، بين مؤيدي النظام السوري ومؤيدي المعارضة، فإن الطابع الطائفي لها، خاصة بين السنة والعلويين في طرابلس، عكس حجم التعصبات المذهبية وما يرتبط بها من نزاعات سياسية متعارضة، ترجمتها نوعية الأسلحة المستخدمة، وعملية إحراق المحال التجارية التي تمت على أساس طائفي.
الدلالة الثانية تشير إلى "توقيت" اندلاع التوترات المذهبية في الشمال اللبناني، وبالتحديد في مدينة طرابلس، فالأزمة السورية مستمرة منذ عام ونصف العام، وهي مدة ظل لبنان خلالها متماسكا في مواجهة تبعات الأزمة ومردودها الطائفي والسياسي علىها، إذن لماذا الآن؟. التوقيت هنا يشير إلى أمرين، الأول يتعلق بسوريا، وازدياد حدة الرفض والإدانة الدولية لممارسات النظام القمعي تجاه المعارضة. ومن ثم، كان الاتجاه إلى بديل التخفيف من الضغوط الدولية والإقليمية على نظام الأسد، عبر تصدير الخلاف الطائفي السوري إلى الساحة اللبنانية، هو إحدي صور المواجهة التي يحاول النظام التلويح بها في مواجهة المجتمع الدولي، أي التهديد بإشعال حرب طائفية إقليمية في المنطقة، تطول جميع الدول ذات التركيبة الطائفية المماثلة للتركيبة المجتمعية السورية وأولاها بالطبع لبنان.
أما الأمر الثاني، فيتعلق بالتوتر السياسي اللبناني، إثر اتهام أجهزة الأمن النائب اللبناني الأسبق، مشال سماحة، الذي عمل لفترة مستشارا للرئيس السوري بشار الأسد، بالتخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية ضد قادة في الطائفتين السنية والمارونية، وذلك بدعم من النظام السوري، بهدف تأجيج النزاع الطائفي، وفصل عري تحالف قوى 14 مارس المؤلفة من قوى سنية ومسيحية مارونية، مما يفتح الباب مجددا على حالة من الفوضي الأمنية والسياسية في لبنان.
الدلالة الثالثة تشير إلى موقف حزب الله من الأحداث الطائفية الأخيرة التي شهدتها مدينتا طرابلس وبيروت، هو موقف يبدو غريبا ولا يتطابق مع حجم التأييد الذي يمنحه للنظام القمعي في سوريا. فالأحداث في طرابلس كانت بعيدة كل البعد عن تورط حزب الله فيها. البعض يري أن حزب الله يكتفي بممارسة تأثيره السياسي في منطقة تمركزه الجغرافي فقط، أي في الجنوب اللبناني، وهو تفسير يفتقد البعد السياسي بالطبع، لأن التفسير الأقرب إلى الصحة هو أن حزب الله درس بدقة متناهية حسابات "الربح والخسارة" في الفوضي الطائفية التي شهدتها المدينتان المذكورتان، وخلص منها إلى نتيجة، مؤداها أنه وفي حالة تورطه في إذكاء النزاع الطائفي بين السنة والشيعة العلويين في المدينتين، فسيقلص ذلك من فرص إجرائه "تسويات" لصالحه، أو على أقل تقدير ليست ضده بينه وبين القوى السياسية اللبنانية من ناحية، وبينه وبين القوى الإقليمية من ناحية أخرى، في حالة سقوط نظام بشار الأسد الذي يدعمه. لذلك، آثر حزب الله النأي بنفسه بعيدا عن حالة النزاع الطائفي في طرابلس وبيروت، وتركها للعديد من البؤر الطائفية الأخرى التي توالي النظام السوري، والقادرة على تحويل لبنان إلى ساحة للفوضي.
الدلالة الرابعة تشير إلى سياسة "النأي بالنفس" التي انتهجتها حكومة ميقاتي اللبنانية بشأن الأزمة السورية منذ اندلاعها، وهي سياسة تبدو محايدة ظاهريا، إلا أنها واقعيا خدمت النظام السوري القمعي، إذا ما نظرنا إلى المحاولات التي قامت بها السلطات الأمنية في التضييق على العناصر الموالية للمعارضة السورية، وعلى اللاجئين السوريين. أضف إلى ذلك أن تلك الحكومة مكنت نظام الأسد- وقبيل اندلاع أزمته – من تأمين عمق سياسي له عبر دعمها، بل وحفاظها وتأمينها لخطوط الاتصال السياسية والعسكرية بين النظام في دمشق وحزب الله. يعني ذلك أن لبنان المأزوم بفعل تكوينه الطائفي والسياسي الداخلي لم يستطع أن ينأي بنفسه فعليا عما يدور في سوريا، وأن نظام الأسد قادر على الزج بلبنان إلى ساحة الفوضي لابتزاز القوى الإقليمية في المنطقة، خاصة تركيا والسعودية، اللتين تريان في استهداف السنة اللبنانيين في طرابلس من قبل العلويين "بروفة" لحرب طائفية جديدة في لبنان.
الدلالة الخامسة تشير إلى خطورة توظيف الأزمة السورية الحالية للواقع اللبناني الطائفي في خدمة النظام السوري ومساعيه، إما للبقاء أو الخروج الآمن مستقبلا، لأن الواقع الطائفي في سوريا غير مرتبط بالواقع السياسي الذي تسيطر عليه الأقلية العلوية، وتشكل %11، من المجتمع السوري، وتُخضع الأكثرية السنية التي تشكل 75 % من السكان لها بكافة أشكال القمع. أما الواقع اللبناني الطائفي، على الرغم من تشابه مكوناته مع نظيره السوري، فإنه تم توظيفه واقعيا وسياسيا فيما يسمي "بالطائفية السياسية" التي تعني أن قواعد اللعبة السياسية تقوم على التنوع الطائفي والعرقي، ويكون التوافق فيها أو ما يسمي بالديمقراطية التوافقية هو الحاكم للعلاقة بين القوى السياسية المختلفة، وهو أمر مختلف تماما عن الأوضاع السياسية السورية، ومن ثم تصبح عملية تصدير نزاع طائفي إلى الأراضي اللبنانية أشد خطورة على استقرارها السياسي والأمني.
ثانيا- آثار الأزمة السورية على التفاعلات الطائفية في تركيا:
أما بالنسبة لتركيا، فلم تسلم كدولة جوار لسوريا من تأثيرات تبدو حادة على النظام السياسي التركي، إلا أنها أقل خطورة في درجة التأثير الطائفي عن تلك التي يعانيها لبنان، لأن تلك التأثيرات لا تتخذ الطابع الطائفي المذهبي بين سنة وشيعة، بقدر ما تتخذ أشكالا أخرى تتعلق بالأقليات العرقية، خاصة الأكراد والعلويين. فجدير بالذكر أن الأزمة السورية حولت العلاقات التركية – السورية من درجة "التحالف" الاستراتيجي إلى درجة "الخلاف" الاستراتيجي الحاد، إثر الموقف التركي المؤيد للثورة.
وارتبطت بهذا الواقع سياسات متبادلة عبرت عن عمق الخلاف بين الجانبين التركي والسوري، كانت أكثر حضورا على الحدود بين البلدين، سواء على مستوى هجرة السوريين من أتون الحرب الدائرة بين المعارضة والنظام، ولجوئهم لتركيا التي استوعبت حتي الآن ما يقرب من سبعين ألف لاجئ، أو على مستوى احتضان قوى المعارضة السياسية وعناصر وقادة الجيش السوري الحر، وتوفير الدعم لهم، من خلال التدريب والتسليح وغيره، أو على مستوى رفع درجة "سخونة" الحدود، عبر قيام الجيش السوري النظامي بالانسحاب من المدن الكردية السورية على الحدود، وترك أمر حماية تلك المناطق لعناصر من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، الذي يعد حليف حزب العمال الكردستاني التركي المعارض. يعني ذلك أن دمشق تضغط بالفعل على أنقرة عبر استخدام الورقة الكردية التي تمثل هاجسا أمنيا للمشهد السياسي التركي منذ عقود مضت.
هنا، يأتي الحديث عن تبعات الانخراط التركي في الأزمة وتداعياتها على التفاعلات الطائفية والعرقية بها، ومدي تأثر الامتدادات الطائفية بين سوريا وتركيا بحالة الاقتتال الدائر في الأولي، وبالتحديد الأقلية الكردية التي لها مطالبها السياسية في الاستقلال منذ عقود طويلة، والأقلية العلوية كطائفة مذهبية يبلغ تعدادها في تركيا نحو عشرين مليون شخص.
أخطر ما يؤرق تركيا هو اضطرارها إلى التدخل في الشمال السوري لمواجهة مخاطر تمركز حزب العمال الكردستاني المعارض على حدودها الجنوبية، واستخدامه من قبل النظام السوري كورقة ضغط على تركيا، مما يعني أنها ستكون في مواجهة مع الأكراد السوريين الذين يعيشون في المنطقة الحدودية. إذن، يدخل أكراد سوريا في منظومة حسابات الأمن الاستراتيجي لتركيا، لأنها باختصار شديد تتحسب تماما لأي واقع أو تسويات قد تسفر عن إقامة دولة كردية شمال سوريا، مما يجعل من المناطق الحدودية التركية الجنوبية ملاذا آمنا لحزب العمال الكردستاني المعارض.
وعليه، فإن أي فراغ متوقع في السلطة السورية – من وجهة النظر التركية- إذا لم يعالج بوجود حكومة يتم تشكيلها من المعارضة السياسية التي تحتضنها تركيا، من شأنه إتاحة المجال أمام العديد من السيناريوهات التي تراها تركيا "مقلقة" تماما بالنسبة لأمنها واستقرارها، منها مثلا اتجاه أكراد سوريا إلى تبني خيار الفيدرالية أو الاستقلال التام عن الجسد السوري، أيضا اتجاه العلويين – في حالة تقسيم سوريا – إلى إقامة دولتهم، مما قد يدفع علويي تركيا للمطالبة بالاستقلال، على غرار نظرائهم السوريين، أو على أقل تقدير تخشي تركيا أن يعاود حزب العمال الكردستاني ضرباته الإرهابية للداخل التركي، الأمر الذي سينال من الاستقرار الأمني في المرحلة الحالية.
في هذا السياق، يلاحظ أن حكومة العدالة والتنمية مدركة تماما لمخاطر الورقة الكردية على مستقبل الاستقرار السياسي التركي، في حالة استمرار الأزمة السورية، بالكيفية التي تسير عليها دون حسم، والتي تفسح المجال أمام نظام الأسد للتأثير في الوضع السياسي التركي الداخلي بتوظيفه لتلك الورقة. وترصد أنقرة ملاحظتين تؤكدان قناعاتها بأنها مقبلة على أزمة عدم استقرار، نتيجة لاستخدام نظام الأسد الأكراد كرقم مهم في معادلة العلاقات السورية – التركية وهما:
– الدعم الكامل الذي يقدمه النظام السوري وكذلك الإيراني لحزب العمال الكردستاني المعارض، وتأمين تحركاته في المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا، وانعكس في حجم ونوع العمليات التي نفذها الحزب في الداخل التركي منذ اندلاع الثورة السورية.
– رصد حكومة العدالة والتنمية لاتصالات بين إيران وحزب العمال الكردستاني المعارض بشأن عرض الحزب على إيران إقامة تحالف مع أكراد سوريا، إذا ما أسفرت تطورات الأزمة السورية عن سقوط نظام الأسد، الذي قد ينتج عنه قيام نظام سوري جديد قد يتعارض في سياساته مع إيران. فهذا التحالف سيكون من شأنه تمكين إيران من التدخل في شئون سوريا ما بعد نظام الأسد، ويكون المقابل الذي يناله الحزب الكردستاني التركي هو ضمان الدعم الإيراني لمطالبات إقامة دولة للأكراد في المنطقة.
الملاحظات السابق رصدها فرضت على الحكومة التركية إما الاستعداد للمواجهة العسكرية، أو الاحتواء السياسي والدبلوماسي، عبر التحرك الإقليمي الفعال. الخيار الأول له تبعات سلبية كبيرة لا تستطيع أن تتحملها الحكومة التركية، سواء أكانت تبعات أمنية أم اقتصادية، كما أنه محكوم بمجموعة من القيود المفروضة على الخيار العسكري التركي في سوريا. أما الخيار الثاني، فلم يؤت بثماره طوال شهور الأزمة السورية، بل ألقي بتداعيات اقتصادية وأمنية رهيبة على الحكومة التركية، جراء فتح حدودها أمام اللاجئين السوريين. إذن، ما هو السيناريو الذي يمكن تركيا من الخروج من الأزمة السورية بأقل التكاليف السياسية والاقتصادية والأمنية الممكنة؟ السيناريو يكمن في التواصل مع المعارضة السورية التي من المتوقع أن تحل محل النظام السوري، لاسيما المجلس الوطني الذي يرأسه السياسي الكردي عبد الباسط سيدا، الذي تتطابق وجهات نظره في الشأن الكردي مع مثيلتها التركية.
فالدولة السورية الجديدة هي "دولة ديمقراطية حرة واحدة يتساوي فيها الجميع في إطار وحدة الدولة"، أيضا ضرورة التواصل مع القوى العربية، لاسيما السعودية ومصر. فالمصلحة العربية في سوريا الموحدة غير المقسمة هي مصلحة تركية أيضا. وعليه، يكون السيناريو التركي لمواجهة الأزمة السورية هو مزيدا من الحشد الدبلوماسي الإقليمي والدولي للإسراع بالإطاحة بنظام الأسد، مع تأكيد مدي الخسائر التي تتحملها الحكومة التركية جراء الأوضاع المأساوية على حدودها، مع توفير البديل لتولي السلطة، حال سقوط الأسد، تفاديا لحدوث أي فراغ سياسي يحول سوريا لدولة فاشلة.
أما بالنسبة للعلويين في تركيا وعددهم نحو 20 مليون نسمة، ويمثلون 30 % من السكان، يقيم جزء منهم يبلغ نحو المليون في إقليم "هاتاي" التركي بلواء الأسكندرونة، فإنهم يمثلون امتدادا جغرافيا لعلويي سوريا. وتسعي تركيا إلى احتواء الآثار السلبية الناجمة عن وجود اللاجئين في منطقة الحدود التي شهدت احتكاكات متعددة بين الطرفين بالبحث في بدائل نقل اللاجئين إلى داخل الآراضي التركية. ويكمن التحدي الرئيسي لتركيا في علاقة اللاجئين السوريين بالداخل التركي في مدي تقبل الطائفة العلوية التركية المؤيدة للنظام العلوي السوري لوجود السنة السوريين، خاصة بعد أن وصفت الطائفة العلوية التركية الدعم الهائل معنويا وماديا وعسكريا الذي تقدمه حكومة العدالة والتنمية للمعارضة السورية، خاصة الإخوان المسلمين، بأنه نوع من التقارب المذهبي السياسي وانتقاص من وضعية العلويين في تركيا الذين لم يتوانوا عن نقد سياسات الحكومة فيما يتعلق بالأزمة السورية.
هنا، الأمر يبدو شديد الوطأة على أنقرة، لأنه بات يهدد ولو بطريقة غير مباشرة حالة الوئام المجتمعي التركي، ويشير إلى وجود مسار يجمع بين موقف العلويين الأتراك المعارض لحزب العدالة والتنمية وموقفهم المؤيد بالطبع للثورة السورية. ولكن يجب ألا نفصل بين حقيقة ثابتة، مؤداها أن انتقادات الطائفة العلوية لسياسات حكومة العدالة والتنمية ليست نابعة من موقف الحكومة التركية من نظام الأسد، أي ليست وليدة العام ونصف العام الماضيين فقط، وإنما نابعة من مخاوف "أسلمة" الدولة التركية. يعني ذلك أن حالة عدم الانسجام بين الحكومة التركية والعلويين، والتي تترجم في معارضة هذه الطائفة لسياسات الحكومة، عبر ممارسة سياسية حزبية واضحة في حزب الشعب الجمهوري المعارض وبعض الأحزاب اليسارية – التي تعد الطائفة العلوية هي القاعدة التصويتية لها – لا تخرج عن كونها صراعا سياسيا ذا أبعاد دينية، لكنه في الوقت نفسه لا يرتقي إلى درجة الصراع الطائفي الذي بدا واضحا في الأزمة السورية.
ثالثا- تداعيات الأزمة السورية على العراق:
تعرض العراق أيضا لانعكاسات الأزمة السورية وتفاعلاتها الطائفية، فقد كان الملف الكردي هو الملف الأكثر تفاعلا في العلاقات العراقية – السورية خلال الشهرين الماضيين. ففي خطوة غير مسبوقة، قام مسعود برازاني، رئيس إقليم كردستان العراق، الذي يتمتع بوضع فيدرإلى، بالترويج لمبادرة "توحيد الأكراد السوريين"، والتوسط بين تكتلين كرديين كبيرين، هما المجلس الوطني الكردي، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي – ميليشيا مسلحة- بهدف توحيد وتنسيق المواقف الكردية العراقية والسورية للعمل المشترك في مرحلة ما بعد رحيل نظام بشار الأسد.
وهي رسالة واضحة أدركتها تركيا، ومؤداها أن العراق يسعي إلى مساعدة أكراد سوريا في الحصول على ما يتجاوز مجرد التمتع بحقوق المواطنة كاملة إلى الحصول على حكم ذاتي، أشبه بما حصل عليه أكراد العراق، مما يعني التأثير سلبا في أكراد تركيا الذين سيطالبون حتما الحكومة التركية بأكثر من الاعتراف بحقوقهم الثقافية والمساواة والمواطنة. إذن، التحركات العراقية بشأن أكراد سوريا تراها تركيا سلاحا ذا حدين بالنسبة لها. فمن ناحية، تري تلك التحركات تهديدا للاستقرار السياسي بها على خلفية الوضعية السياسية والاجتماعية لأكرادها.
ومن ناحية ثانية، تراها مهددة للتفاعلات الإقليمية في المنطقة، لأن تحفيز أكراد سوريا على الاستقلال، في ظل الظروف التي تمر بها الثورة السورية، سيضعف سوريا ويؤهلها للفشل الذي يعقبه تقسيم طائفي لا محالة. وهنا، يكمن التهديد الأكبر بالنسبة لتركيا تحديدا من الناحية الأمنية، والسياسية، والاجتماعية بالطبع. التفسير المنطقي لهذه الخطوة التي قام بها زعيم إقليم كردستان هو أنها لا تخرج عن كونها محاولة لتخفيف الضغوط الإقليمية التي تمارسها تركيا على حليفه بشار الأسد، لأن ما يجمع بين الإقليم العراقي والحكومة التركية من مصالح يجعل برازاني يعيد دراسة حساباته الإقليمية جيدا، خاصة أن تركيا توفر للإقليم متنفسا سياسيا واقتصاديا بديلا عن العلاقات المتوترة بين الإقليم وحكومة العراق المركزية.
ومن جهة أخرى، يدخل التوتر السني – الشيعي في العراق، على خلفية الأزمة السورية، طورا جديدا من أطوار المواجهات السياسية. فالعراقيون السنة، لاسيما في غرب العراق، حيث الحدود مع سوريا، يتعاطفون تماما مع السنة السوريين في حربهم مع النظام ويدعمونهم بالسلاح، بينما ترفض الحكومة العراقية الشيعية هذا الدعم العراقي السني، وتراه محفزا لخلايا تنظيم القاعدة للوجود في المنطقة الحدودية، ويسهم في تفاقم التوترات الطائفية في العراق. في الوقت نفسه، يري سنة العراق أن ثمة تحالفا شيعيا يضم الحكومة العراقية وإيران، أخذ على عاتقه مواجهة محاولات إسقاط النظام السوري. ووسيلته في ذلك إثارة مخاوف الشيعة من النتائج التي ستترتب على انتصار الثورة السورية على النظام العلوي الشيعي في دمشق لأنه سيمثل انتصارا للسنة في المنطقة بأكملها. الموقف العراقي إذن ينقسم بين الشيعة الذين يدعمون نظام الأسد، ويصفون المعارضة السورية بالعناصر الإرهابية، وبين السنة الذين يساندون المعارضة بالمال والسلاح.
والسؤال هنا: ما تداعيات ذلك على الداخل العراقي واستقراره الذي لم يكتمل بعد. هنا، يمكن رصد بعض التداعيات التي انعكست على الأوضاع الأمنية والسياسية خلال الشهرين الماضيين:
– احتدام الصراع السياسي بين حكومة بغداد المركزية وإقليم كردستان الكردي، العراقي، وترجمة ذلك في رفض حكومة الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي دخول قوات الجيش العراقي النظامية منطقة الحدود مع سوريا لمنع تسلل العناصر المسلحة، بحسب زعم الحكومة المركزية، وهو أمر ينذر بمواجهات عسكرية مستقبلية بين قوات البيشمركة الكردية والجيش العراقي.
– ازدياد مخاوف تقسيم العراق مستقبلا، وبعد الانتهاء من الأزمة السورية، بالنظر إلى التحركات الكردية العراقية على مستوى التفاعل مع أكراد سوريا، والذي تواكب مع تهديد زعيم الإقليم، مسعود برازاني، بإجراء استفتاء لتحديد مصير الإقليم، ردا على محاولات الحكومة المركزية العراقية إدخال قوات الجيش في المدن التركية، لاسيما المتنازع عليها، على خلفية ضبط الحدود مع سوريا.
في هذا الإطار، يمكن القول إن الأزمة السورية تجاوزت حد الأزمات السياسية الداخلية بين نظام ومعارضة، وتحولت إلى أزمة إقليمية دولية مرشحة مستقبلا لتتحول إلى أزمة طائفية بسبب التركيبة السكانية، والامتدادات الإثنية والعرقية، والتكوينات الطائفية والمذهبية التي تتشابه فيها كل من تركيا ولبنان والعراق مع سوريا، في ظل وجود دور إيراني لايزال قادرا على توظيف المذهبية والطائفية والعرقية داخل دول الجوار لحملها على تغيير مواقفها من الأزمة، وللضغط في الوقت نفسه على القوى الدولية التي لا ترغب في اندلاع حرب طائفية في منطقة إقليمية شديدة الحساسية، سيكون لها مردودها السلبي على الاستقرار فيها، بما لا يخدم تحالفاتها السياسية ومصالحها الاستراتيجية.
دورية السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)