تُعد السياسة ميدانًا غنيًا بالصراعات، حيث تتشابك المصالح الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع الاعتبارات الإيديولوجية. ومع تعقيد هذه الصراعات، يظهر النفاق كأداة رئيسية تُستخدم لتبرير التجييش الإيديولوجي وتحقيق المكاسب السياسية.
يشير مفهوم النفاق في السياسة إلى ممارسة ازدواجية المعايير أو تقديم صورة مضللة عن المبادئ والقيم لتحقيق أهداف معينة. ويتجلى النفاق في خطابات السياسيين أو الأحزاب التي تُظهر التزامًا علنيًا بقيم معينة بينما تُمارس نقيضها في الخفاء. ويعد هذا السلوك متجذرًا في الرغبة لكسب تأييد الجماهير أو تجاوز القيود الأخلاقية لتحقيق المصالح.
أما بالنسبة لمفهوم التجييش الإيديولوجي فهو بالمختصر يعني استغلال الأفكار والمعتقدات لتعبئة الجماهير أو تبرير سياسات معينة.
وتُستخدم الإيديولوجيات كأدوات للسيطرة على الأفراد، حيث تقدم رؤية شاملة تُغذي الانتماء الجماعي وتشحن العواطف ضد الخصوم.
و تشمل آليات التجييش:
الخطاب العاطفي: استخدام لغة تثير المشاعر مثل الخوف أو الكراهية أو الفخر القومي.
تشويه الحقائق من تضليل للرأي العام أو من خلال نشر معلومات مغلوطة.
اما بالنسبة إلى الرموز والشعارات فهي تعتمد بشكل يعمل على تبسيط الأفكار المعقدة في رموز سهلة الاستيعاب وشعارات تُثير الحماسة.
نعود إلى موضوع حساس في هذا السياق وهو كيفية خلق العدو المشترك وذلك من خلال تصوير لمجموعة أو فرد باعتباره تهديدًا مباشرًا للمجتمع أو الأمة والعمل على حقن وتجييش الأفكار والمشاعر تجاه هذا العدو الذي يراد منه استثارة المشاعر والكره له .
اما بخصوص دور النفاق في التجييش الإيديولوجي فهو الذي يعمل كحافز أساسي في التجييش الإيديولوجي.
فحين يدعي الساسة أو القادة تبني قيم مثل الحرية والعدالة بينما يمارسون سياسات قمعية، فإنهم يُغلفون تناقضاتهم بطبقة من الشرعية الإيديولوجية. يتيح ذلك لهم كسب الدعم الشعبي وتجنب المحاسبة، خاصة في البيئات التي تفتقر إلى الإعلام المستقل أو النقد البناء.
ونجد في الأمثلة التاريخية التالية نماذج للنفاق والتجييش الإيديولوجي:
الحرب الباردة:
خلال الحرب الباردة، استغلت القوى العظمى الإيديولوجيات لتبرير تدخلاتها. الولايات المتحدة رفعت شعار الدفاع عن الحرية والديمقراطية، بينما دعمت أنظمة استبدادية تتماشى مع مصالحها. وفي المقابل، استخدم الاتحاد السوفيتي خطاب العدالة الاجتماعية لممارسة السيطرة على دول الكتلة الشرقية.
النزاعات في الشرق الأوسط:
استُخدمت الإيديولوجيات الدينية والقومية بشكل مكثف لتعبئة الجماهير. وعلى الرغم من الشعارات المعلنة حول الوحدة أو تحرير الأراضي، فإن الممارسات السياسية غالبًا ما أظهرت نفاقًا واضحًا، حيث قُدمت المصالح الشخصية أو الحزبية على حساب القضايا الكبرى.
صعود الشعبوية في أوروبا وأمريكا:
اعتمد السياسيون الشعبويون على خطاب يعزز الانقسامات الثقافية أو العرقية، متذرعين بالدفاع عن “الإرادة الشعبية”، بينما كانت سياساتهم تخدم نخبة معينة أو مصالح اقتصادية ضيقة.
بالنسبة للآثار السلبية للنفاق والتجييش الإيديولوجي فإن تعزيز الانقسامات بين المجموعات المختلفة داخل المجتمع يرجع إلى
التجييش الإيديولوجي ، مما يؤدي إلى تصاعد التوترات والصراعات.
فالنفاق عندما يصبح قاعدة في العمل السياسي، يؤدي إلى تآكل قيم الشفافية والمساءلة، وهما ركيزتان أساسيتان في الديمقراطية.
كما يُسهم التجييش الإيديولوجي المدفوع بالنفاق في استمرار الصراعات بدلًا من حلها، حيث يتم تبرير العنف والسياسات العدائية من خلال خطاب مزدوج.
الشي المهم والأساسي لحل معضلة ظاهرة النفاق الإيدلوجي السياسي تكمن عندما تكون المؤسسات السياسية أكثر شفافية وقابلة للمساءلة، فيصبح من الصعب على القادة السياسيين التلاعب بالإيديولوجيات أو ممارسة النفاق.
ويبقى ملخص المقال والغاية من استعراضه هو ان النفاق والتجييش الإيديولوجي ظاهرتان متلازمتان في الصراعات السياسية، حيث تُستخدمان لتحقيق أهداف قصيرة المدى على حساب الاستقرار والقيم الإنسانية.
ومع ذلك، فإن وعي الأفراد والمجتمعات بتلك الظواهر يمكن أن يسهم في تقويض تأثيرها.
فالحلول تبدأ بتعزيز التعليم، ودعم الإعلام الحر، وترسيخ قيم الحوار والشفافية، مما يتيح بناء مجتمعات أكثر عدالة واستقرارًا.
ولابد من الإشارة إلى أن مقاومة النفاق والتجييش الإيديولوجي تعتبر مسؤولية جماعية وتتطلب جهودًا مستمرة على كافة الأصعدة ومن كافة الجهات والفعاليات وأصحاب العقول المتنورة ومراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية المؤثرة والتي تكون هي في النهاية عماد المؤسسات السياسية العميقة .
بوابة الشرق الأوسط الجديدة