التذّمر، (التطرّف!)
التذّمر، (التطرّف!) …. تنويه: هذا المقال من منشورات عام 2006 قد يكون في إعادة نشره الآن تذكير بكل الأفكار التي سادت منذ عشر سنوات. تنويهاً وتنبيهاً، ولم تجد آذاناً صاغية، حتى وصلنا إلى “فوات الأوان”، أو قريباً منه!
“لكي تصنع متطرفاً، يكفي أن تخلق بيئة متذمرة، وأشخاصاً مستائين في البداية… ثم ترش عليهم قليلاً من محلول الفقر وتعاملهم بدون احترام.
المتذمر شخص يرى أمام عينيه رغيفَه يكرج كدولاب الحظ باتجاه آخر ونحو شخص آخر. ويرى بأم عينيه أحداً ما من أقاربه أو ذويه يعتقل أو يقتل أو يهان.
يذهب إلى الجامع وقد حرم، لسبب ما من الجامعة، فتمتلئ رئتاه بغبار المعارك المنتصرة تحت راية اسلام قديم وفاتح ومندفع. ويملأون وجدانه بتحريض لنصرة العراق، ودعاء لهلاك اليهود، واستسقاء لعطش الفلسطينين. وابتهالاً لإزالة الاحتلال الأمريكي.
يمشي في الطريق فتعترضه دورية اشتبهت بلحيته السوداء، في لحظة استنفار أمني يؤخذ كمشتبه به، وحتى يعرفوا إن كان اسلامياً جهادياً أم اسلام شعب عادي، أو أن اللحية علامةٌ فنيّة ونزوعاً إلى التميّز… يكون الفتى قد أضاف إلى احتقانه حقداً. وإلى تذمره مبرراً. وقد لا يكون في عداد الأحياء!
بالطبع سبق كل ذلك رحلة الاشتراكية من مفهوم التوزيع العادل للثروة، إلى التعميم الشامل للفقر. ومن طريقة للمساواة إلى طريق للظلم. الشيء نفسه بالنسبة للحرية والقومية العربية:
“أنت حر كما نشاء نحن… في قيودك، نطوَّلها ونقصرّها حسب الطوارئ” وأنت عربي من المحيط إلى الخليج” ولكنك شيعي وسني ومسيحي وبربري وكردي وابن عائلة وفخذ وعشيرة… إلى آخره: مَنْ يُنكرُ الآن أن السؤال الأول هو: من أي مذهب أنتَ، لا من أي وطن جئت؟!
… على الباب الخارجي للجامع ثمة زرقاوي ما. أو ابن قاعدة” مزعوم يرتب للتذمر سريراً وبندقية، وبطاقة ذهاب واحدة إلى العراق، أو أي مكان ملتهب آخر. وعندما يُلقى القبض عليه ويعترف، تحت السياط، بأنه حلُمَ بالجهاد، وبأن طريق الخلاص هو الجهاد. ولكنه لم يذهب إلى أي مكان، ولم يجاهد بعد. لم يقتل ولم ينتظم في قواعد أفغانستان أو بلاد الرافدين. أو الوهابية الجديدة. فقط فكّر وعرض عليه. عندئذ لا يطلق سراحه بل يدخل مدرسة التذّمر الجديدة… السجن، وهناك يلتقي بكل ما من شأنه أن يحوّله من “متذمر” إلى “متطرف”.
يلتقي هناك بقادة تطرف. بمعاوني ملائكة. ببائعي حشيش. وبسجانين يؤجرونه فراشاً، أو سريراً، أو يبيعونه علبة السردين بثمن السمكة. وبمن يرفسه كحيوان في مصيدة.
هناك يتعرف إلى معنى أن يكون مجهولاً كشخص، معلوماً كإضبارة .مدموغاً في التصنيف ضمن زمرةٍ معينة. ملغي الخصوصية، وبالطبع يائسٌ لا يعرف متى وكيف سيخرج.
يمنع السجن زيارة أهله، فيتخذ من المتنفذين في الجماعة أهلاً. يمنع السجن الكتاب والأوراق والأقلام… فتغدو ثقافة المهجع إرشاداً، ووعظاً، وتذمراً، وجهادية وتديناً وتطرفاً. تذهب فردية الفرد، ويصبح منهم وفيهم وإليهم.
وذات يوم قد يخرج تائباً وشائباً. ولكن القصة سوف تُروى، والعلاماتُ الفارقة لن تُمحى. وجيلاً وراء جيل يتربّى عددٌ، من هنا هناك، على التكرار والتجربة وملء الفراغ.
التذّمر، (التطرّف!)
لماذا السجن هكذا؟
لماذا ما قبل السجن هكذا؟ وما بعده أيضاً… في تكرار جهنمي لإنجاز التوبة… ثم يحدث العكس تماماً؟
لأن عقلية “الأمن” بدل “الأمان” هي السائدة.
لأن نظرية “كل شخص مشبوه حتى يثبت العكس” هي القاعدة. لأن الثأر بدل المسامحة، والعقوبة بدل المكافأة، والحوافر بد الحوافز (الفرق نقطة على الراء) هي عقلية التربية. وإلى أن يتبدل شيء من ذلك سيظل التطرّف ولوداً، والسجون والهروات عقيمة!! وقد يكون الموت تافهاً أمام حياة تافهة، فيتساوى المصيران!