التعليم والإعلام..حصانة ثقافيّة ضدّ العنف والإرهاب
يُعَدّ الإرهاب اليوم أكبر خطر يهدِّد مجتمعات القرن21 دونما استثناء، وهو ليس مجرّد تهديد خارجيّ مصدره “الآخر” الذي تتمّ شَيْطنته، بل هو أيضاً تهديد داخليّ خطير يقتضي تنْشِئة مضادّة، واستنبات ثقافة بديلة تقطِّع أوصاله.
وقد تزداد خطورته أيضاً، ليس بوصفه حدثاً مُطلقاً لم يقع مثيله في الماضي، أو زلزالاً كما وسمه جان بودريار (“الفكر الجذريّ، أطروحة موت الواقع”،2006)، وإنّما لأنّ النِّظام الكَونيّ صار من الهشاشة بحيث يشجِّع على الإرهاب والإرهاب المضادّ بعدما غدا العالَم شبكة واحدة، وتمركَز ضعفه في نقطة وحيدة يسهل استهدافه من خلالها.
لأنّ الإرهاب إفراز عَولميّ لأنظمة أحاديّة تمجِّد نفسها، وتُمارِس القهر والدمج ونفي المُختلف، مع ميلٍ للتدمير وزرْع الرعب باسم الدّين أو غيره؛ ولأنّه مدّ يتغذّى من ضُعف التماسك النفسي والاجتماعي وهشاشة الأبنية الاقتصادية والابتعاد عن القيَم المرجعية الضابطة لسلوكات الفرد والجماعة، ويتجذّر حيث يضعف الوعي الهويّاتي أو ينغلق على نفسه، فإنّنا نروم في هذه المقالة ربط التعليم بالهوية، عبر ترسيخ القيَم المُعتدِلة التي تعمِّق الارتباط بالوطن وتعزِّز هويّته بمستوياتها الثقافية كافّة.
يتعلّق الأمر بتنشئة تستثمر في الأجيال الصاعدة إعداداً وتكويناً، لإكسابهم المناعة الكافية ضدّ أشكال التطرّف والإرهاب، عبر بناء وعي هويّاتي مُشبع بالمُواطَنة والقيَم الحقوقية المنفتحة على العُمق الإنساني الخيّر والمحاورة للغير المختلف. وهو ربط نجد فيه تحصيناً قويّاً للفرد والمجتمع والدولة أيضاً من مَخاطر التدمير الداخلية والخارجية على السواء، بتعزيز مكوّنات الثقافة والتراث والهويّة الوطنية ورموزها، ضدّ “الهويّات المدمِّرة”، المهدِّدة لأمنها الروحي والفكري قبل أمنها السياسي والاستراتيجي، ولاسيّما إذا استحضرنا أشكال الصراع الهويّاتي والأزمات الاقتصادية والأمنية التي تستهدف استقرار دول المنطقة العربية؛ فقد بدا واضحاً اليوم، أنّ صراع القيَم والمرجعيّات والهويّات أكبر خطر إرهابي، إن لم يكنْ منبع كلّ إرهاب وعنف، وأنّ خطورته تزداد كلّما اعتقد مُمارسه أنّه صاحب حقّ أو مُدافِع عن مبدأ مشروع. فإلى أيّ حدّ يستوعب الإعلام ومؤسّسات التعليم في بلداننا، العلاقة العلّية ما بين الفكر المُنفتِح والمُعتدِل والأمن الروحي، أو ما بين الجهل والانغلاق والتطرّف المُفضي إلى العنف والإرهاب؟
تُعَدّ التنشئة الاجتماعية سيرورة من التطبيع، يُمكن الرهان عليها لتعميق روابط الفرد بثقافته وبناء مجتمع مُتماسِك ومشدود إلى هويّته ومنظومته القيَميّة؛ ولأنّها تُرافِق مسار حياة الإنسان، فهي عمليّة ممتدّة تتجاوز الطفل لتشمل المُراهِق والناضج (حامد زهران، علم النفس الاجتماعي،1984)؛ أي أنّها سيرورة من التثقيف والتعليم تبدأ من الأسرة لتنتقل إلى المدرسة ووسائل الإعلام (إيمان فرج: الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للشباب والمُراهقة،2005)، تغني الشخصية وتُمكّنها من التوافق الاجتماعي(سعد الإمارة: الدّين والأسرة والتنشئة الاجتماعية، 2003)، أخلاقياً وقِيميّاً وروحيّاً، فتُكسِب الفرد سلوكات ومعايير وقيماً واتّجاهات تدمجه في المجتمع وتَهبه القدرة على التكيّف (Bolliet, et Schmith: La Socialisation,2002)، كما تضطّلع بدَور الضبط الاجتماعي لسلوكاته، بإبعاده عن الأفعال التي لا تُوافِق المجتمع تسهيلاً للخضوع لالتزاماته وانتهاء ببناء شخصيته الجماعية. (Muriel Darmon: La Socialisation,2006). ومثلما أوضح إميل دوركهايم Emile Durkheim (Education et Sociologie,1968) فهي سيرورة تطبيع تعمِّق وحدة المجتمع، تضطّلع فيها المدرسة بأهمّية كبرى على نحو يضمن له اتّساقه الجمعيّ، وعمليّة استبطان قيَم المجتمع وبناء نظامٍ للمؤهّلات الفردية، كما ألمح إلى ذلك بيار بورديو Pierre Bourdieu (Esquisse d’une Théorie de La Pratique :1972)، لذلك فبقدر ما تتيح إمكانية إعادة إنتاج المجتمع وتأبيده، تسمح بإمكانيّة التعديل والتغيّر الاجتماعي.
أمّا عن”الهوية”، فهي مفهوم حيويّ يتّصل بعُمق الانتماء لأيّ فرد. لغويّاً تدلّ على التطابق كمعنى منطقيّ يلخّصه مفهوم “الهو هو”، كما تحيل على مبدأ الانسجام والاتّساق، لكونها تحمل دلالة العنصر الثابث في كلّ فرد أو جماعة. أمّا عن اتّصالها بالمجتمع والثقافة، فهي تحيل على قيَم مختلفة، تجسّدها أنماط الكلام واللّباس والسكن والطبخ والهندام، كما تمتدّ إلى طُرق الاهتمام بالجسد والرياضة والفنون؛ ولأنّ عناصرها تقطن عُمق الثقافة وسابقة على الفرد من حيث وجودها التاريخي، فهي تصنعه صنعاً وتُهيّئ شخصيّته لاكتساب ملامح محدَّدة. هنا تتدخّل اللّغة مبكراً لتكوين الهويّة بشكلٍ يميل إلى العفوية، لأنّنا نتكلّم بحسب قواعدها، وننشّأ ونتلقّى قيَماً تسري فينا وتكوِّن شخصيّاتنا وهويّتنا من دون أن نشعر بذلك. فللّغة، كتابةً ورسْماً ووشْماً، أسبقيّة في صنْع الفرد وتكوينه، ما دام الإنسان “مكتوباً” تأسَّس خلقه على الكلام كعلامات وأسماء (عبد الله حمّودي، الحداثة والهويّة،2015)؛ بل إن تمييزه عن باقي الكائنات تمّ عبرها، فهي مملكته ومستودع قيمه وذاكرته ضدّ كلّ تهديد بالنسيان والتدمير. لهذا، فحتّى المجتمعات المهزومة عسكرياً، لم تفقد هويّتها العميقة لاحتفاظها بلغتها. فاليابان المدمَّرة في الحرب العالمية الثانية، لم تفرِّط في هويّتها، والأمر عينه ينطبق على فلسطين التي لم تفعل ذلك أمام إسرائيل المُحتلّة، وعلى دُول شمال إفريقيا التي لم تتخلَّ عن العربية حاملة الهويّة والدين أمام محاولات فرنسا الاستئصالية.
ولئن عمد جهابذة الاستعمار ومهندسوه، إلى محاصرة الهويّة ومحاولة استبدالها بلغتهم، إلّا أنّهم أخفقوا مجتمعيّاً في تذويب لغة “التكالُم” اليومي، على الرّغم من فرضهم الفرنسية في مختلف المؤسّسات وأقسام الإدارة؛ فقد ظلَّت العربية برموزها الهويّاتية قائمة في المساجد، مثلما امتدّت في القيَم والعادات والتقاليد وأنماط السكن والمعمار واللّباس. ولا غرابة في ذلك، إذ تحتوي كلّ لغة، من حيث هي أسّ الهويّة وعمقها، على شحنة عاطفية قويّة لدى أهلها، هي سرّ التعلّق بها والدفاع عنها.
ولئن كان تعلّق الفرد بلغة أخرى أمراً وارِداً، فإنّ تعلّقه باللّغة التي تربّى بها ونشّأ عليها يبقى أكبر، لأنّها صلته الأولى بالعالَم وبالأشياء والمعاني. بهذا، نكون أمام أهمّ مفعولات التنشئة الاجتماعية، التي يصير تمسّك الفرد باللّغة بموجبها وعياً قارّاً بالهوية، سواء تعلّق الأمر بهويّة الذّات أو بهويّة المجتمع أو الوطن، مادامت هذه الانتماءات الثلاثة، تتقاطع تحت انتماء رئيس يمنح الفرد إحساساً ثابتاً بالهوية الكلّية، ويكفل له باقي مستوياتها وخصوصيّتها الثقافية في سياق التعايش والحرّية ونبْذ التعصّب والتطرّف.
ولأنّ بناء الشخصيّة سيرورة مراحل متكاملة، نؤكِّد على أهمّية ترسيخ ملامحها منذ مراحل النموّ الأولى، ما دام الوعي بالهويّة هو بمنزلة الأثر لما يُسجَّل في الشخصيّة، ولما يبقى راسخاً في وعيها ولا وعيها، كما أنّه ثمرة التنشئة وحصيلة التفاعلات والأحداث التي طبعت مسارها الحياتي، الفردي والجماعي. وهو ما يؤدّي إلى بناءٍ متوازن للذات، لا يقوم على تمجيدها ونبذ الآخر، بل يسعى إلى تحديد مساحة كلّ منهما. فكثيراً ما يكون للغَير دَور حيويّ في فهم خصوصية الذّات ومقوّماتها وتعميق إدراكها بهويّتها، عبر سياقات التواصل والتفاعل الإيجابي التي تنمّيها وتمنعها من الانغلاق والتقوقع المدمِّرين.
إنّ ترسيخ الوعي بالهويّة مهمّ جدّاً لمجتمعاتنا، وينبغي بناؤه مبكراً ليعمل كصمّام أمان ضدّ كلّ تهديد، بالقطع مع الإحساس بالدونية ورفض الذات والاستبراء من قيَمها وثقافتها، مثلما حصل في لحظة تاريخية سابقة، جسدتها هزيمة 1967، لمّا تجرع المثقّفون العرب مرارة الخيبة والانكسار، فولَّدت في نفوسهم إحساساً عميقاً بالمَهانة والذلّ، وصارت مجموعة منهم، بسبب عجزها عن مواجَهة الخَصم، تبخِّس انتماءها القومي والديني والثقافي، وبات أفرادها يائسين من تجاوُز وضعية التخلّف، ملقين باللّائمة على هويّتهم كنوع من العقاب وجلد الذات.
وغير بعيد عن الإعداد لجيل متعلّم ومجتمع بمقوّمات المواطَنة الايجابية، يأتي دَور الإعلام كحلقة وسيطة مكمِّلة لدَور المؤسسات التعليميّة، لأنّ الشقّ التوعويّ مطلوب من وسائل الإعلام. لذا فإعلامنا العربي مدعوّ إلى تطوير برامج تعليمية تربوية حديثة وقويّة، من شأنها إنتاج جيل جديد، يحترم مواطنوه قيَمه المجتمعية، ويلتفّ حول رموزه الفكرية والثقافية، ويحترم ثقافة المجتمعات المُغايرة. ولعلّ أبرز ما يُمكن للإعلام أن يقدّمه في الظروف الراهنة التي تموج بالتعصّب والنّعرات الدينية والطائفية والأفكار الاستئصالية، هو إشاعة ثقافة الاختلاف وتوطين مبادئ الحِوار القائم على احترام تعدّد الثقافات الإنسانية. فمِن المهمّ إذن، استيعاب أهمّية التنشئة التعليمية والإعلامية في تعزيز الأمن الفكري والروحي ودعم الأمن الجسدي والمادّي.
إنّ تعزيز هذا الصنف من الأمن الفكري والروحي، يُمكنه قطع الطريق على أشكال التعصّب كافّة التي تتغذّى من الجهل بالدّين أو النزعات الوثوقية الممجِّدة للذات المُنغلقة والمُحاربة للغير المختلف.
إنّ التنشئة على حرّية التعبير وطلب المعلومة والحقّ في الوصول إليها، ينسجم مع تعدّدية التعبير الثقافي، كما أنّها من شروط تنمية الحياة الثقافية، ومن ثمّة الرفع من الوعي العامّ داخل الوطن وتجنيبه كلّ ما من شأنه أن يهدِّد استقراره وأمنه الفكري والهويّاتي. فعلى مؤسسات التعليم والإعلام أن تتحمّلا مسؤوليّاتهما في ترسيخ المفاهيم الوطنية كقيَم ملموسة، تتّصل باستثمار معطياتنا الثقافية المختلفة، بغضّ النظر عن اختلافاتنا الفكرية واللّسانية؛ إذ إنّه بتوطيد قيَم الانفتاح والحوار والإشادة بالكفاءات التي تمثِّل نماذج مثالية وطنية للاقتداء، يُمكن تذويب ثقافة العنف والتطرّف، وبالتالي إغناء مناخ السِّلم والأمن الاجتماعي والروحي والبدني أيضاً.
لا ننسى أيضاً أنّ واقع العَولمة، وتنافُس المنتجات الاقتصادية والثقافية، وتطوّر شبكة الإنترنت، واتّساع دائرة التواصل الجديد، تشكّل كلّها رهاناً قويّاً يستدعي إصلاح بنياتنا التعليمية والإعلامية، والإنتاج بلغاتنا، مع مجهود دائم للتعريب لا يمنعنا من الانفتاح على اللّغات الأخرى في سياق فهم العالَم المُعاصر والتواصل معه. ولِمَ لا نستفيد من ذلك مع قدرتنا على الحفاظ على هويّاتنا الوطنية وخصوصيّاتنا الثقافية والحضارية، إذ إنّ التحدّي الأكبر هو”الفرد المُواطِن” أو “الإنسان المُواطِن” وليس”الإنسان القبلي” أو “العشائري” أو “الطائفي”.
*أستاذ علم الاجتماع- جامعة شعيب الدكالي في المغرب
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)