«التفشّي» قبل عصر «السوشال ميديا»
أمس الأول، مضى سبعون عاماً على تاريخ نشر قصة إخبارية خاصة في مجلة «نيويوركر»، غدت من أهم القصص المكتوبة في تاريخ الصحافة. حملت المادّة عنواناً بسيطاً مؤلفاً من كلمة واحدة: هيروشيما.
في ربيع العام 1946 كلّفت «نيويوركر»، جون هيرسي، الروائي والمراسل الحربي، بالذهاب إلى هيروشيما. كان متوقعاً منه أن يعود بقصة ترصد واقع المدينة اليابانية بعد مرور 9 أشهر على إلقاء الولايات المتحدة لقنبلتها النووية. خلال وجوده في المدينة المنكوبة، اتخذ الصحافي قراراً جريئاً في ذاك الحين، فبدلاً من وصف المدينة المدمّرة، روى شهادات الناس ممن كتبت لهم النجاة، كي يصفوا مشاعرهم واللحظات القليلة التي سبقت إلقاء القنبلة التي غيّرت مستقبل اليابان، وربما العالم، إلى الأبد.
نقل المراسل الكابوس المؤلم الذي عايشه من شاهدوا أناساً يحترقون حتى الموت، وكانت له لقاءات مع قساوسة وأمهات وأطفال وأطباء. استطاع هيرسي تهريب الوثائق والصور التي جمعها في هيروشيما. ويعد ذلك انجازاً نظرًا لأن رقابة الاحتلال الأميركي، كانت تتلف أو تمنع خروج أية وثائق أو صور من اليابان. كما لو أن إلقاء قنبلة نووية أمرٌ يمكن إخفاؤه أو طمسه.
في نيويورك، أدرك محررو المجلة أنهم أمام قصة استثنائية، فأحاطوا عملية تحرير وإخراج العدد الجديد بسرية خاصة. الغلاف الخارجي للعدد الصادر بتاريخ (31-8- 1946)، لم يشِ بما في الداخل، إذ تضمّن إعلانات مختلفة لسيارات ومعاطف من الفرو، إلى جانب رسوم لأناس يستمتعون بعطلتهم الصيفية على الشاطئ. داخل صفحات المجلة غابت رسوم الكاريكاتير والتقارير، لتحتلّ قصة واحدة المجلّة برمّتها. 30 ألف كلمة، صوّرت العواقب الحقيقية المرعبة لاستعمال الأسلحة النووية. وشكّل تخصيص عددٍ كامل لقصّة واحدة سابقة صحافيّة.
سرعان ما بيعت 300 ألف نسخة من «نيويوركر»، وقد أعادت بعض الصحف الأميركيّة طباعة القصّة. وخلال أسبوعين أعادت المجلّة طبع عددها ووصلت المبيعات إلى 120 مليون نسخة. وبذلك تكون قصة هيروشيما أولى القصص الإخبارية التي انتشرت جماهيرياً بصورة واسعة، كما يحدث اليوم للقصص والصور المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، بفرق أن ذلك قد حصل قبل سبعين عاماً مضت، كما أشار تقريرٌ عن قصة «هيروشيما» نشر على موقع «بي بي سي».
يرى كثير من المتخصصين أن مكمن القوة، يتمثل بإدخال جون هيرسي فن «القص» على الكتابة الصحافية، وإبرازه أهميته وقدرته الاستثنائية على جذب اهتمام الناس وتقريب الأحداث منهم. ويعيد البعض نجاح القصّة إلى الموهبة التي امتلكها الكاتب، كروائي ومراسل حربي. استطاعت القصة إيصال صوت اليابانيين المنكوبين، الذين كانوا قبل وقت قليل مجرد أعداء مجهولين بالنسبة للكثير من الأميركيين، خصوصًا أن الثقافة الأميركية كانت قد كرست الكثير من الرسائل المعادية والعنصرية إزاء اليابان والعرق الأصفر. هذا واستطاعت قصة هيرسي أن تكشف أمام الأميركيين حقيقة يجهلونها، بفعل تستّر الحكومة والجيش الأميركي، أن تأثيرات تلك القنبلة تستمر حتى بعد انفجارها.
مع إصرار جون هيرسي، على حماية قصته من أي تعديل أو حذف، يخفف من وطأتها، استطاعت القصة أن تتجاوز حدود الصحف الأميركية لتنشر في بلدانٍ أخرى، وتطبع في كتاب. هذا وقامت إذاعة «بي بي سي»، بإعداد قراءة صوتية للقصة، بالرغم من الجدل الذي حصل في ذلك الحين حول التأثيرات المحتملة على المستمعين. ولا يزال التسجيل من العام 1948 موجوداً في أرشيف «هيئة الإذاعة البريطانية» حتى اليوم.
ربما تكون استعادة قصة هيروشيما المنشورة في «نيويوركر»، محاولةً للتذكير بزمنٍ كانت تملك فيه الصحافة سطوة السلطة الرابعة، وكانت وسائل الإعلام الأميركية تتمتع باستقلاليّة جزئية في نشر ما يتعارض مع السياسات الخارجية للبلد. لكن التفاخر اليوم بحرية الكلمة لا يغطي على حقيقة أن أميركا نفسها هي التي ألقت بأخطر أسلحة الدمار الشامل، وإن كانت سمحت فيما بعد بنشر قصة عن الموضوع. يقول جون هيرسي إن «الصحافة تسمح للقراء بأن يكونوا شهوداً على التاريخ، بينما تتيح الأعمال الروائية لهم الفرصة لعيش ذلك التاريخ». ويبدو أن قصة هيروشيما استطاعت في ذلك الوقت أن تجمع بين الاثنين، لكنها وبالرغم من قوتها لم تستطع أن تغيّر التاريخ المحكوم بسطوة السلاح.
صحيفة السفير اللبنانية