التلفزيون العربي السوري… ملاحظات لحل المشكلات المتراكمة …
شاءت الظروف أن أعايش معطيات مهمة في الشأن المهني التلفزيوني جعلتني على تماس مع المسائل الحساسة التي يعاني منها التلفزيون الآن، فقد كنت مع طاقم التأسيس في أول تلفزيون سوري خاص، أي: تلفزيون الدنيا، وعملت فيه مديرا للبرامج مدة سنتين ونصف السنة، كما كنت مديرا للبرامج في مرحلة التأسيس للقناة الإخبارية السورية لمدة سنة، وكنت عضواً في لجنة إطلاق قناة نور الشام، ثم عضواً في لجنة تأسيس قناة تلاقي إضافة إلى تجربتي في القناة الثانية التي أعتز بها دائما. إن هذه الظروف جعلتني أبحث في قضايا التلفزيون المهنية وأراجع تجاربنا وتجارب الآخرين في المحطات الناجحة، وخاصة أنني شاركت في إنتاج البرامج بمساحة وثقة لم تمنح لأحد على مدار عشرات السنين!
الهوية والتلفزيون
وفي تجربتنا، لاحظت أنه منذ اللحظة الأولى التي انطلق فيها التلفزيون العربي السوري في 23 تموز 1960، أطلق الدكتور صباح قباني مديره الأول هوية واضحة لهذا التلفزيون هي أنه تلفزيون الأسرة السورية الذي يحمل رسالة نبيلة تتوافق مع قيمها وطموحاتها، أي إن ثمة هوية مهنية وسياسية وطنية واضحة للتلفزيون الذي انطلق وبنوعية محددة من البرامج تحتاج إليها ساعات بثه اليومي، وهكذا كان: نجح التلفزيون السوري في العقود الأولى وأصبح قدوة الشاشات العربية كتلفزيون أسرة.
التقليدية والمطب
وعلى الرغم من الحديث عن شهرة الأداء التلفزيوني في السنوات الأولى للتلفزيون العربي السوري في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، يوم كان التلفزيون قناة واحدة، فإن إشارات خطر كانت تظهر في أدائه تتعلق بالأخبار، وتحديدا بالخبر المحلي، وبشكل أدق الخبر الذي يحتاج إليه الجمهور عن الشأن السياسي والحكومة، ورسمت هذه الإشارات أعراضا مرضية ستصيب الإعلام السوري كله، فاشتهر الإعلام بأنه إعلام «استقبل وودع»، وكانت أهم الأخبار تصاغ بشكل مقتضب يحتاج عنوانه إلى التباحث بالمستجدات الراهنة، وراح الناس يبحثون عن مصادر لإخبارهم المحلية خارج الإعلام الوطني، وكان ذلك مكمن الخطر.
وفي التسعينيات ظهرت القناة الثانية بهوية واضحة وبلغة تخاطب غير عربية فتميزت ونجحت سريعا، إلى أن جرى التراجع عن هويتها ما أدى إلى فقدان جزء كبير من جمهورها، فتشابهت مع القناة الأولى، ثم ألغيت مع موجة الفضائيات التالية!
في المحطات التلفزيونية السورية الجديدة التي أطلقها التلفزيون تباعا غابت الأسس التي هيأت للنجاح في التجارب الأولى، فغاب تمايز كل محطة عن غيرها، فمن المفترض أن يكون هناك فرق بين محطة إخبارية ومحطة دينية ومحطة درامية وتلفزيون أسرة.. وعندما تضيع هذه الخصوصية تصبح البرامج متشابهة، ويصبح الضيوف متشابهين، ويصبح النجاح مكررا، ويصبح الفشل واردا.
التلفزيون وحاجة الناس
يحتاج السوريون من إعلامهم إلى تقديم كل ما يستطيع الإعلام تقديمه، فالتلفزيون يفترض أن يقدم الخبر والتحليل والترفيه والثقافة، فإذا غاب الخبر المحلي عنه راح المشاهد يبحث عنه في مكان آخر وإذا غاب الترفيه راح يبحث عنه في مكان آخر، وإذا غابت الثقافة استقطبته ثقافة الاستهلاك في الأماكن الأخرى، ومع تراكم هذا النقص نجحت المحطات الخارجية في استقطاب الرأي العام السوري سنة بعد سنة إلى أن ظهرت الأزمة واندلعت الحرب على السوريين، وكانت الآثار كارثية!
الخبر المحلي ليس ترفاً
ولكي نكون واضحين فإن حاجة المواطن السوري إلى خبره المحلي هي ليست ترفا يمكن الاستغناء عنه، وإنما هي حاجة ينص عليها القانون (باعتبارها معلومة)، ويفترض عدم إخفاء تفاصيل الأخبار أو الحد من انتقاد الممارسات العامة في وسائل الإعلام، وهذا يعني بطبيعة الحال أن الإعلام، وتحديدا الإعلام التلفزيوني هو العصب الرئيسي في الحياة الحضارية للناس ووسيلة التواصل التي تمتن التماسك الوطني والاجتماعي والثقافي!
تفرض الأسئلة نفسها على أرضية هذه المقدمة المتعلقة بتاريخ التلفزيون، فهل تعمل القنوات التلفزيونية السورية وفق خصوصية كل قناة وبمهنية تليق بتلك الخصوصية التي أعدت من أجلها؟ وأي الشرائح من المجتمع تخاطب كل قناة في أدائها اليومي؟ وما الرسالة التي تريد إيصالها، وبأي الأساليب؟ وكيف يمكن لنا فهم مضمون ما يقدم من خلالها؟ وأين حصة الشباب من قنوات التلفزيون السوري؟
وعندما جاءت الأزمة أضيفت هموم جديدة إلى أداء المحطات السورية، تتعلق بالتحليل السياسي، فإذا هو متشابه يفتقد المعلومات، يطرح الشعارات البراقة ولا يجيب على التساؤلات المصيرية المستجدة، إضافة إلى مسألة الرأي الآخر التي فرضت نفسها كموضوع حساس جرى التفكير فيه مع إطلاق قناة تلاقي!
كانت هذه الأسئلة تفرض نفسها في وقت تضخ فيه عشرات المحطات ألوانا مختلفة من التحليل لتقدم له معلومات أخرى وتحليلات أكثر سخونة وقوة، وتمنح منبرا للسوري ليتحدث عن بلاده تحت حجة الرأي الآخر.
تلاقي والهوية وفلسفتها
وهنا من المفيد الإشارة إلى تجربة إطلاق قناة «تلاقي»، فقد كانت تحمل هوية تلبي حاجة الأزمة إلى حوار جدي متعدد المشارب والاتجاهات ولو كانت متناقضة، وقد كان التوجه واضحاً أن «تلاقي» كما قال رئيس الحكومة في احتفال إطلاقها «تحمل فلسفة اسمها»، وأنا سأقول شيئاً على هذا الصعيد هو أننا في لجنة إطلاق هذه القناة اتفقنا على هذه الفلسفة بثقافة وعفوية وطنية معا وجرى الترويج لها على هذا الأساس!
ثم تأتي العوامل المهنية والإدارية الأخرى لتزيد الطين بلة، فقد تزايد حجم العاملين في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون إلى أرقام خيالية وتراجع المستوى المهني بشكل واضح، وبرزت القضايا المالية المتلاحقة التي لعبت دورها في تحويل الكادر من منتج إلى مستهلك يعيق العمل ويزيد الأعباء عليه.
المالية والتضخم الإداري
لقد تحولت الميزات المالية للعمل الفني إلى ميزات للتضخم الإداري غير الواضح وغير الدقيق، ولم تكن آليات تقييم المنتج البرامجي والدرامي واحتياجاته منطقية بل كانت تقوم أحياناً على مزاج شخصي في أي لحظة ينشغل المدير العام عنه فينأى عن الموضوعية أو على الأقل لا يمكنه محاكاتها، وهذا يعني أن الاهتمام بالمنتجين الحقيقيين يتراجع أمام الانشغال بإرضاء أرتال العاطلين عن العمل وهذه مسألة لم تحل بعد.
يمكن تسجيل كل هذه المعطيات في إطار القطاعات البرامجية والإخبارية والإدارية، أما القطاع الدرامي، فقد كان في مرحلة من المراحل نقطة علام في نجاح التواصل مع الناس وإعادة التواصل مع الذين نأى كثير منهم عن متابعة التلفزيون السوري إخباريا وبرامجيا، وبدلا من أن يتم تعميق استثمار هذا النجاح تخلى التلفزيون عنه، وتم تشكيل مؤسسة للإنتاج الدرامي انفصلت وجعلت التلفزيون يفقد أهم مرتكزات نجاحه المتبقية كمؤسسة ثقافية منتجة، ومع اتجاه الرساميل العربية إلى استثمار هذا المنتج الثقافي (أي الدراما) تم تحويل موضوعاته لا كما يريدها المجتمع السوري بل كما يريدها الممول الخليجي.
وهنا لا بد من الاعتراف بأن الإنتاج الدرامي في مديرية الإنتاج الدرامي التلفزيوني القديمة كان جدار حماية لهذا التلفزيون، واليوم تقع المؤسسة البديلة في مواجهة أزمات صعبة مردها إلى التوظيفات المالية الخليجية الهائلة في الدراما السورية والاستئثار بعناصر نجاح هذه الدراما وسوقها، وضعف الإمكانات السورية في المنافسة، وظل التلفزيون يفتقد المنتج الدرامي الناجح فصار يشتريه من تلك المؤسسة.
ماذا يعني هذا في لغة الإعلام الآن؟ وأين تصرف هذه المعطيات؟!
مرهون بمعطيات الإدارة الجديدة
الجميع يعتقدون أن القرار مرهون بالصيغة التي تقرها الحكومة أو الوزير أو ربما المدير العام المفترض، ولكن المسألة ليست هكذا، هي منهجية، وليست إرادية، وتتطلب تغييراً جوهريا بصيغة العمل القائمة وذلك بقرار جريء ومسؤول يحدد ملامح السياسة الإعلامية ويضع آليات عملها وفقا للتطورات التي تدافعت على البلاد في السنوات الأخيرة.
وأعتقد جازما أن الحل الجوهري يكمن في مراجعة هوية كل قناة وخصوصيتها ومن ثم فصل آليات التعامل الإداري والمالي بين طواقم العمل الفنية وطواقم العمل الإدارية، وهي خطوة يخاف منها الكثيرون، إلا أنها نافعة لكل الأطراف ووسيلة لتحفيز العمل المميز المنتج.
ثم لا بد من حصر صيغة العمل الفني «البرامجي والدرامي» وتبعاته بما هي تكاليف وتعويضات عن السيناريو والإخراج والمونتاج والتصوير والتسجيل بالعناصر المختصة التي تساهم في تقديم المنتج البرامجي، والعودة إلى نظام حجوم العمل.
وهذا يحتاج إلى توصيف سريع يقوم بتحديد المهارات وتسميتها بإخلاص وتصنيفها وتوزيعها وفقا للهيكل الإداري، ولا يجوز أن يكون الحامل الإداري للأقسام الفنية أكبر بعشر مرات من العاملين بالقطاعات المختصة بإنتاج المادة التلفزيونية، فعلى الجميع أن يقوموا بخدمة المادة التلفزيونية التي يجري إنتاجها وليس العكس حيث تقوم هي بحمل عبء الجميع.
هذا يعني أن التلفزيون العربي السوري في مختلف قنواته العاملة وضمن مختلف المستويات من الإدارة إلى الإعداد إلى الإخراج معني بتحمل المسؤولية الكاملة في تحويل الإعلام إلى مجراه الصحيح، وإلى الإخلاص للمهمات التي تتطلبها الظروف الوطنية التي يعيشها السوريون وهي ظروف تتجه تلقائياً إلى الحل السياسي، والحل السياسي يحتاج إلى حوار وإعلام وإلى نور، وإذا كنا أمام حكومة جديدة تنوي حل المشكلات المتراكمة، فإن العمل شاق أمام الجميع، والمهمات أصعب من قبل بكثير، وأهم هذه المهمات تحديد خصوصية كل قناة وبرامجها!
صحيفة الوطن السورية