التوتر الروسي – التركي من سوريا الى ارمينيا (د. دياري صالح مجيد)
د. دياري صالح مجيد
الترابط الجيوبولتيكي بين الضغط التركي على المصالح الروسية في سوريا والضغط الروسي على تركيا عبر البوابة الارمنية، قد يدفع باتجاه التوصل الى مقايضات اقليمية في المواقف مابين هذه الاطراف الرئيسية الممسكة بخيوط التطورات المستقبلية في كلا الساحتين.
على الرغم من المسافة الجغرافية الشاسعة التي تفصل بين دولتي ارمينيا وسوريا، وعلى الرغم من انتماء الاولى الى اقليم جنوب القوقاز والثانية الى العالم العربي، فان الجيوبولتيك برؤيته الاوسع ساعد على ترابط هاتين الدولتين في تفاعلات السياسة الاقليمية والدولية المعاصرة. وهو ما قد يشكل عنصر مفاجئة لدى البعض في كيفية حصول مثل هذا الترابط الذي قد يظن البعض مخطأً بانه لا يمكن له ان يحصل الا بين دول تجمعها حدود جغرافية مشتركة ومباشرة في ذات الوقت.
في هذا السياق تعد تركيا، وبحكم موقعها الجغرافي، جسر التواصل الارضي الذي يملك حدودا للتواصل ما بين هاتين الدولتين. فهي تحادد الاولى من الشرق والثانية من جهة الجنوب. وهو ما سمح لها بالتأكيد بممارسة العديد من الادوار في ارمينيا عبر التاريخ وكذلك بممارسة دورها المعروف حاليا في الازمة السورية، اذ يُنظر لها من قبل القوى الاخرى على انها حجر الزاوية في امكانية التوصل الى نهاية لاعمال العنف او استمرارها هناك. وهو ما جعل القوى الاخرى المعادية لهذا الدور تفكر في كيفية استخدام مصادر ضغطها الجيوبولتيكية، لارغام تركيا على التفكير في عواقب تعنتها وعملها بالضد من مصالح هذه القوى في سوريا.
الموقف الروسي من الوضع القائم اليوم في سوريا كان من بين اكثر القضايا التي اثارت سخط القوى الراغبة في اسقاط النظام السوري، خاصة وانه جاء كالمعتاد متزامنا مع الموقف الصيني والايراني حتى بدا الامر وكان هذا الحلف يجمعه اكثر من قاسم مشترك لتامين وجوده المستقبلي في نظرته لحساسية الوضع السوري. لذا جاءت الخطوة الروسية في هذا الاتجاه بالدفع نحو الورقة الارمنية التي لا زالت بعد تشكل مصدرا من مصادر الصُداع المزمن لانقرة، على اعتبار ان هذه الخطوة الروسية ستنعكس اثارها الايجابية بالنسبة لها في عدة اماكن تتجاوز الحدود الجغرافية – السياسية للقوقاز باتجاه العالم العربي وبالذات منه في سوريا.
تحاول تركيا دوما العمل على تفعيل القيمة السياسية لموقعها الجغرافي باتجاهات متعددة. لذا وفي الوقت الذي هي منشغلة فيه بشكل كبير بمحاولة تطبيق مشروعها في سوريا، بدأت تنظر بجدية نحو الشرق بهدف الحاق مزيد من الوهن والضعف بالمصالح الروسية، التي تنظر لمنطقة اسيا الوسطى والقوقاز على انها مجال حيوي خالص لها ولا ترغب برؤية تركيا تعيد استخدام نزعتها الطورانية هناك بأي شكل من الاشكال. لذا توجهت روسيا بقوة نحو هذه الساحات عبر تحالفها التقليدي الذي تملكه مع ارمينيا في مواجهة التحالف الذي يجمع تركيا بدول اذربيجان وجورجيا.
تسعى تركيا الى اقامة علاقات مهمة مع اذربيجان بفعل امتلاكها لكميات مهمة من موارد الطاقة. فقد اتفق الطرفان على مد خط انابيب لنقل الغاز الطبيعي بكلفة 7 مليار دولار يمر عبر شرق تركيا الى اوربا. وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل الدفع الروسي باتجاه تأزيم العلاقات الارمنية – الاذرية، اذ ان موقع اذربيجان الجغرافي يحتم على تركيا التفكير بامرار هذا الانبوب اما عبر الاراضي الارمنية او الايرانية او الجورجية التي يوجد فيها نفوذ كبير للروس منذ الصراع الاخير الذي حصل في جنوب اوسيتيا في العام 2008. وهذه الدول (روسيا وايران) تعارض المشروع والطموحات التركية في سوريا وتسعى الى افشالها بكل السبل المتاحة بيدها، الامر الذي يعني بان ملف الطاقة هذا يعد من بين اهم الملفات ذات المدلول الجيوبولتيكي في ترابط الملف الارمني – السوري خاصة وانه يجمع الاحلاف المتضادة والمتصارعة على الارض السورية.
كما وان ارمينيا تنظر اليوم بشيء من الريبة لما يمكن ان يلحق بالأرمن المتواجدين في سوريا، على اعتبار ان الحركات الاسلامية المتشددة التي تقاتل الحكومة السورية لا تنظر بعين الارتياح للارمن هناك وتهدد مستقبل تواجدهم في تلك الاجزاء. لذا نجد بان الرئيس الارمني قد علق على هذا الموضوع مؤخرا بالقول "يجب ان يتم الترحيب بحرارة باؤلئك الذين يهاجرون منهم الى ارمينيا… ان الوضع في الشرق الاوسط وفي الدول العربية مترابط بشكل مباشر مع امن بلادنا، لذا فاننا ندعو الحكومة الى عدم تصعيد العقبات البيروقراطية بوجه المهاجرين الارمن من سوريا وجعل حياتهم اسهل. كما اشار الى ان هذه الخطوة قد تكون امرا مشجعا لبقية الارمن في الشتات للعودة للعيش في ارمينيا خاصة وان عددا غير قليل منهم يمتاز بالثراء المادي والمعرفي الذي سيعزز من اقتصاد البلاد". وهنا تخشى تركيا من ان يتم تصوير الموضوع وكأنه مجزرة جديدة ترتكب بحق الارمن بفعل السياسات التركية في سوريا، وهو ما يعيد الى الاذهان ملفا اخر من الملفات التي تثير غضب صناع القرار التركي وتجعلهم يفكرون مليا بما يمكن ان تؤول اليه احداث هذا الموضوع وتداعياته مستقبليا، خاصة وان الارمن لازالوا بعد يطالبون بقيام دولة ارمينيا التي تمتد حدودها التاريخية نحو اقسام واسعة من شرق منطقة الاناضول في تركيا، وتخشى بان تقوم روسيا بدعم مثل هذا التوجه نكاية بالدور التركي المهدد للمصالح الروسية في سوريا.
في ملف اخر ذي صلة بهذا الموضوع قامت روسيا مؤخرا باجراء مناورات عسكرية ضخمة في ارمينيا بمشاركة اكثر من 2000 مقاتل من عدة دول منتنمية لمنظمة اتفاقة الامن الجماعي التي تشكلت بقادة روسيا في العام 1992 وضمت هذه المناورات دول ارمينيا، روسيا، بيلاروسيا، كازاخستان، قرغيزستان وطاجيكستان. ومن المقرر ان تستمر هذه المناورات لمدة خمسة ايام للفترة مابين 15-19 سبتمبر/ايلول. في هذا الصدد قال وزير الدفاع الارمني " ان هذه المناورات العسكرية المشتركة هي مناورات غير مسبوقة في تاريخ القوات العسكرية الارمنية، اذ ان الهدف من وراءها هو العمل على خلق قوة اقليمية بامكانها تحييد التهديدات المحتملة ". ولعل القصد الاقرب الى اذهاب وزير الدفاع الارمني هو الجارة تركيا، اذا ان تلك المناورات استهدفت على وجه الدقة كيفية محاربة الجماعات المتطرفة التي قد تتخذ من المناطق الجبلية بين البلدين مكانا لها في شن هجماتها ضد ارمينيا، والتي بالتأكيد سيتم تغذيتها ورعايتها تركياً.
مثل هذه الخطوة الاستباقية جاءت في ظل العودة المفاجئة لما يعرف بمنظمة اسالا "الجيش الارمني السري لتحرير ارمينيا" الذي يملك عداء تاريخيا مع تركيا، فقد هددت هذه المنظمة تركيا مؤخرا بالقول " ان اي انتهـاك تركي او تدخل عسكري يعرض وحدة وامن المجتـمع الأرمـني في سوريا للـخطر سيواجه بإجراءات مماثلة ضد تركيا ". وهو ما جعل روسيا تفكر مليا بامكانية قيام الاتراك باستخدام ورقة موازية لدور هذه المنظمة عبر امكانية دعم حركات اخرى مضادة في ارمينيا خاصة منها تلك التي تتعلق بصراعها مع اذربيجان على اقليم ناجورنو كاراباخ.
الترابط الجيوبولتيكي بين الضغط التركي على المصالح الروسية في سوريا والضغط الروسي على تركيا عبر البوابة الارمنية، قد يدفع باتجاه التوصل الى مقايضات اقليمية في المواقف مابين هذه الاطراف الرئيسية الممسكة بخيوط التطورات المستقبلية في كلا الساحتين. خاصة وان كل طرف قد بدا بالعمل علانية على تحريك بيادقه للعب بشكل مفضوح في ساحات الدول الاخرى بالضد من مصالح خصومه المفترضين، الامر الذي قد يهيء الارضية لتطورات لاحقة قد تزيد من حدة الترابط الجيوبولتيكي بين اقاليم وقضايا قد تبدو للوهلة الاولى انها متباعدة ولاتمت لبعضها البعض باي صلة تذكر.
كاتب واكاديمي عراقي
ميدل ايست أونلاين