الثقافة من أجل حياة يومية
بعيداً عن الخوض في تعاريف الثقافة التي لم يتفق عليها المعرفون، ومباشرة في صلب موضوع الثقافة من أجل حياة يومية، نقول إن الحياة اليومية بالرغم من كونها تُستمد خلفياتها السلوكية من ثقافة ما، أو مرجعية قيمية معينة، إلا أن مستوى تحقق الثقافة في اليومي والعادي يكاد يكون ضئيلاً، حيث إن ما يحكم الشارع والحياة اليومية غالباً، هو نتاج لمسألة سيكولوجية تكاد تكون لا واعية وهي عملية الفعل وردة الفعل، القائمة على التوجيه لذلك الفعل نحو الغير أو التلقي والتصدي لأفعال الغير نحونا أو تفاعلنا مع الأشياء في الحياة اليومية.
إذن، تقوم ممارسة الحياة اليومية على ردود الأفعال، ويتم تحييد الثقافة بمفهومها العميق أو الحقيقي، الذي ينبني على القيم والأخلاق والمعرفة، حيث إننا نلحظ غياباً كبيراً لمنظومة المعرفة وتجلياتها في التعامل اليومي، وهذا مرده قائم على طبيعة الثقافة الجماهيرية التي تتحكم باليومي والحياتي العادي، يقول إدغار موران: «فإن أصل المأساة الثقافية الحديثة هو مشكلة التفكير.
لقد كان يعتقد أن المعرفة وجدت لتكون موضوع تفكير ومناقشة، وموضوع تأمل حتى تتغلغل في مناحي التجربة الحياتية…». يشير إدغار موران هنا إلى أن التفكير في مرجعيات ومواضيع ومنسوب الثقافة من المفترض أن يكون هو مادة التفكير والتعامل في التجربة الحياتية، ولكنه هنا يفترض غياب ذلك التفكير الذي ينجز للتعامل مع الحياة اليومية نجاعتها وقيامها على أساس من الثقافة المستنيرة والقيم القويمة المتحكمة في تفاصيل ومحركات الحياة اليومية.
وفي محاولة لتبرير تراجع هذا التفكير الذي يستقي مادته من الثقافة الرصينة والعميقة لتوظيفها في الحياة اليومية، يذكر إدغار موران أن حتى التفكير الذي كان هو الضرورة لتفعيل هذه الثقافة في اليومي والمعتاد وفرضه كحالة للتأمل، قد تراجع وحل محله التصور الهمجي والعبثي للجماهير، يقول: «نجد أن التفكير يتقهقر في كل مجال، بما في ذلك الثقافة الإنسانية التي أصبحت طاحونتها تدور في الفراغ، ولم تعد قادرة على أن تجعل مواد الثقافة العلمية موضوعاً لتأملها وهنا يشير موران إلى نوعي الثقافة الأخرى بالإضافة إلى الثقافة الجماهيرية وهما الثقافة الإنسانية والثقافة العلمية، وبذلك نخلص إلى أن ما نحن في حاجة إليه فعلاً، وهو إعادة النظر في قضية التفكير، وتوجيه الثقافة نحو هذه العملية الفكرية التي تضمن للثقافة نفسها، أن تتحول إلى مادة خام ونسيج لليومي
وفي تصوري أن الثقافتين العلمية والإنسانية لا تعملان مباشرة في اليومي والحياتي المعتاد، بل إن الثقافة الجماهيرية هي التي تُوظف في مفاصل الحياة اليومية، لأن طبيعة الثقافتين اللتين أشار لهما إدغار موران وهي الثقافة الإنسانية والعلمية لا تناسب التشكل عبر اليومي والمعتاد، بل هي تظل في مخزون الثقافة وتقوم بالتأثير في الحركات الكبرى في الحياة بعيداً عن الحياة اليومية المعتادة المباشرة.
وفي هذا الشأن وبما أن الثقافة الجماهيرية هي العاملة، فإن مفهوم هذه الثقافة مؤداه أنها ثقافة ذات طابع يميل للضجيج ويميل للآنية وعدم التمكن من قيمه ومعارفه ومخزونه، يقول إدغار موران مرة أخرى: «فإن الثقافة الجماهيرية تتشكل من كم هائل من المعلومات يزداد نمواً بشكل مطرد، ولكن عن طريق هدم نفسه باستمرار، وتحوله إلى (ضجيج). إنه سحب (عابرة) من معلومات غير منظمة». هنا نلمح طبيعة هذه الثقافة غير المستقرة، وغياب الاستقرار هو أحد العوامل التي تمنع تأثيرها في تقوية وتمكين اليومي والحياتي بأسباب الثقافة، أضف إلى ذلك طبيعة العبور، فإن البقاء والمكوث لمفاعيل الثقافة شيء ضروري، ويمثل حاجة ماسة لتدعيم تلك القيم التي تدعم تمكين الثقافة في اليومي والحياتي المعتاد.
يبقى أن نقترح تصوراً عاماً حول تمكين الثقافة في اليومي والحياتي المعتاد، وذلك عبر طرح فكرة تفعيل مخزون الثقافة عبر الجماهير التي تتلقاها في المرافق والمراكز العلمية التي تنشأ فيها هذه الثقافة ويتم ترويجها عبر قنواتها، وهنا أعني المدارس والجامعات والمراكز ومؤسسات المجتمع المدني، بحيث يكون هناك سلوك منطلق من أصل هذه الثقافة العالية نسبياً وتعميمها في التعامل اليومي، وذلك بفرض أسس اللياقة الأخلاقية، وتعميم اللغة والحوار الراقي المستمد من مخزون الثقافة العالية التى تُدار في تلك المرافق.
بحيث يكون التعامل اليومي والمعتاد هو تعامل مثقف إن صح لنا التعبير. وهنا يمكننا أن نحصل على هذا التعامل خارج تلك المؤسسات – في الشارع والسوق مثلاً – عبر اعتياد الممارسين له في تلك المؤسسات والمرافق. ويمكننا أيضاً بواسطة هذا الطرح أن نولد نوعاً من الثقافة يسمى نوع الثقافة اليومية. لكن النجاح ليس في وضع هذه المقترحات وطرح مثل هذه التصورات، بل النجاح يكون في وضع نظرية عملية لتفعيل مثل هذه المقترحات الفرضية، بتشجيع العاملين الثقافيين ممن يحوزون قدراً من الثقافة على تفعيل دورهم في نشر مفهوم الثقافة في الثقافة اليومية، وقد يكون وضع مثل هذا التصور ومناقشته وتحليله، في مناسبة أخرى وطرح آخر إن شاء الله.
صحيفة الحياة