الجائزة «المفخّخة»
لا يهمّ أن يكون اسماعيل كاداريه، الذي حاز أخيراً جائزة «أورشليم للأدب العالمي» التي تمنحها اسرائيل، مسلماً أو «مسيحياً من أصول مسلمة»، كما يحلو له أن يعرّف بنفسه في الإعلام الغربي. في كلا الحالين، فقدَ صاحب «جنرال الجيش الميت» صدقيّته التي رسخها أدبه بصفته روائي «الحرية الإنسانية» و«المقاومة الشعبية» والنضال الألباني ضد الاحتلال والاستعمار. الصحافيون العرب الذين وصفوه بـ»المسلم الأول» الذي يقع في شرك الجائزة العبرية، لم يكونوا صائبين، فهو لم يحز الجائزة إلا كروائي ألباني ينتمي الى بقايا الذاكرة الأوروبية التي يتهم الإسلام الألباني بدفنها، عازلاً ألبانيا عن الحضارة الأوروبية طوال خمسة قرون. ولطالما ردّد أن ألبانيا تنتمي الى أوروبا وليس الى العالم الإسلامي. وعندما وقعت مجزرة «شارلي إيبدو» في باريس، كتب في صحيفة «لوموند» الفرنسية أنّ من واجب أوروبا وليس من حقها فقط، أن تحمي نفسها من الأصولية الإسلامية، «من أجل نفسها ومن أجل العالم». قرأ كاداريه هذه الجريمة أوروبياً وليس بصفته ينتمي الى بلاد هي ملتقى للحضارتين، الإسلامية والمسيحية.
خلال زيارته أخيراً الى القدس الغربية بغية تسلّم جائزة «أورشليم»، في احتفال أقيم له، سعى كاداريه الى تجاهل الاحتلال والقضية الفلسطينية، وعندما «حشره» صحافي إسرائيلي طارحاً عليه سؤالاً «مفخخاً» عن الحرية غير المقيّدة التي ينعم بها الفلسطينيون ولا يمكنهم أن ينكروها، أجابه مورابةً ليتحاشى الإحراج: «أنا كاتب. أكتب أدباً». يعلم كاداريه أن مثل هذا الجواب ضرب من أكاذيبه غير القليلة. تشهد سيرته ورواياته كم أنه غارق في السياسة ومتضلّع من شؤونها. وهو كان متحايلاً في مساره السياسي الألباني، متواطئاً و»متثعلبا» يجيد ألعاب الخفّة والتقلّب. لم يتمكّن كاداريه من طي صفحات ماضيه الشيوعي الذي تواطأ فيه مع السلطة الديكتاتورية حتى أصبح ابنها المدلل، فتنعّم بهباتها وأفاد كثيراً من عطاياها، ثم انقلب عليها وعلى الديكتاتور أنور خوجا عندما حان وقت الانقلاب، ولم يتوانَ عن الانتقال الى «جنة» باريس بصفته مضطهداً ومنفياً…
أما أخبث -وربما أحطّ- كلام أدلى به خلال زيارته القدس الغربية، فهو قوله إن اسرائيل وألبانيا «تناضلان من أجل البقاء في محيط كريه». هذا إثم لا يمكن التغاضي عنه. بل فضيحة يجب عدم السكوت عنها. مَن هم أهل هذا «المحيط الكريه» الذي يحيط بـ»دولة» الاحتلال؟ أصبح العرب، مسلمين ومسيحيين، يمثلون في فلسطين المحتلة «محيطاً كريهاً»؟ ليس هذا الكلام ناجماً عن زلة لسان. لسان كاداريه مثل عقله لا يزلّ. وغايته جلية جداً ومعروفة، هو الذي يئس من انتظار الفوز بجائزة نوبل. قد يحقّ لكاداريه أن يمتدح إسرائيل والصهيونية، وأن يزور القدس المحتلة ويتناسى المأساة الفلسطينية «المفتوحة»، مثله مثل كبار الأدباء العالميين الذين تعمّدوا بماء جائزة أورشليم ليفوزوا لاحقاً بجائزة نوبل. ولكن لا يحقّ له أن يجعل أهل فلسطين المضطهدين والمقهورين والمشرّدين، أبناء «محيط كريه» هو كل ما تبقّى لهم من بلادهم.
الكتاب العالميون الكبار المنحازون الى الجزّار الإسرائيلي والفائزون بجائزة نوبل، نحبّهم ونقرأهم على رغم خيبتنا السياسية والإنسانية منهم. وقد يكون كاداريه واحداً منهم. هل هم ضحايا الأكاذيب الإسرائيلية التي اتسعت رقعتها بعد مأساة أوشفيتز؟ أم أنهم على قناعة بأنّ التعاطف مع إسرائيل يفتح أمامهم أبواب نوبل؟ لكنّ كتاباً كباراً آخرين تعاطفوا مع القضية الفلسطينية وزاروا رام الله في التسعينات، وفي مقدّمهم الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو الفائز بجائزة نوبل. يتطلّب الأمر جرأة وحزماً ويقظة ضمير. ومهما بلغت الأضاليل التي تجيد الصهيونية استغلالها، فالمأساة الفلسطينية لا تحتاج الى من يدلّ عليها. مأساة المآسي تحصل في وضح النهار، والمجازر التي ترتكبها إسرائيل تقع أمام كاميرات الفضائيات.
لا يمكن أن تكون خيبتنا كعرب من اسماعيل كاداريه صغيرة. هو ليس أوكتافيو باث، ولا برتراند راسل، ولا بورخيس، ولا غراهام غرين، ولا سيمون دو بوفوار، ولا سوزان سونتاغ، ولا أيان ماكوين، ولا هاروكي موراكامي وسواهم من الكتاب الكبار الذين نحبهم ونقرأهم بشغف ونتأثر بهم، على رغم فوزهم بجائزة أورشليم. اسماعيل كاداريه قد يكون هو الأقرب الى الثقافة العربية، فهو صاحب هوية إسلامية أو مسيحية- إسلامية متجذّرة في الأرض الألبانية، أرض اللقاء الديني والإتني والثقافي. وليس مستغرباً أن تلقى كتبه رواجاً في ترجماتها العربية، وأن يصبح له قراء عرب لا يُحصون، وأن تفسح المكتبة العربية حيزاً واسعاً له وكأنه واحد من روادها. وقد عمد بعض المترجمين الى تعريب اسمه حباً به، فكتبوه «اسماعيل قدري».
على قدر ما أحببنا كعرب اسماعيل كاداريه، لا بد من أن تكون خيبتنا منه كبيرة.
صحيفة الحياة اللندنية