الجحر العظيم
” كلما تقدمت في العمر، ازددت يقينا أن مايدوم هو… أحلامنا ”
يتصل بي الشاعر السوري نزيه أبو عفش من منفاه الاختياري قريته/مسقط رأسه ـ مرمريتا. فهو كان يسكن في دمشق، وقد غادرها إلى الظلال ، والجبال ، والخيال… وطلب مني الاستماع إلى نص كتبه اليوم.
النص هو عن “الجحر العظيم” الذي كان بيته ، وهو كاراج سياره مساحته ثلاثون متراً. كتب فيه نزيه أربعة من دواوين شعره الجميل دون طاولة أو كرسي. واستقبل نزيه في هذا الجحر كوكبة من الشعراء والفنانين والكتاب والسياسيين والأصدقاء الدائمين.معظم الأسماءالعربيه الكبيرة والسوريه الكبيرة، والتي بأت موهبتها الان .
في هذا الجحر العظيم أكل وشرب وغنى ورقص مئات “الناسات” ونام فيه مغتربون، ومهاجرون، وذوو حاجات ويائسون وفرحون ، من مصروالعراق وليبيا ولبنان والأردن وفلسطين.
في هذا الجحر العظيم… نشأت وترعرعت أفكار جرى خذلانها، وأنشدت أشعار جرى نسيانها، ونقاشات لم يبق منها شيء في أدراج الأعمار الذاهبة إلى يقينها.
لو أن هذا الجحر العظيم سجل، وصور، وأرشف كل شيء لوجدنا مدينة من الأحلام لم يبق اليوم منها أي شيء. … الزمن قصفها أيضا .
وفيما كان نزيه يقرأ لي ما كتبه عن ذلك البيت الواسع الصدر (وهو الاشبه بالقبر) وأنا أتذكر هؤلاء الذين يتحدث عنهم، فأتعثر بزهور قبورهم جميعاً . لقد مات جيلان ، على الأقل ، ممن مروا على هذا البيت ، وهاجر من هاجر ولم يبق الا قليلون .و في زاوية ما من الندم تلتقي بمن لم يعد قادراً على الإمساك بشفرة الحلاقة ، وقلم الكتابة ، وفرشاة الألوان.
في ختام القصيدة يقول:
“ومنذ أقفلت ذلك الباب لآخر مرة…أقفلت باب الحياة”.
لقد انتقل نزيه إلى ضاحية سكنية واسعة ونظيفة ، إلى بيت فسيح ، ويتسع للعشرات من البشر، وللعثرات من الكلام في صخب المشاريع والنوايا المتطايره بين المتحاورين من أجل بلاد أرحب، و شعر أجمل، وكتاب أكثر حكمة. ولكن ، وبعد أن انتعلت الحرب أسلحة من كل أصناف الكراهيات ، رأى نزيه كم هي ضيقة هذه المساحات ، وكم هي خانقة هذه الطرق والبيوت والمدن والأفكار والأيقونات … ضيقة أمام ذلك “الجحر العظيم” الذي كان رحيباً مليئاً، فتياً، سعيداً.
إن كمية الرثاء التي تنتجها الحروب ، عادة ، تنطوي ، رغماً عنها ، على مديح للماضي ، لما قبل الحرب ، لسلام البشر، وعيشهم البسيط، وآمالهم الموجودة مهما كانت عوائقها…
وإذا كان رثاء الأشخاص محاولة لتصوير الفراغ الحاصل بالفقدان… فإن رثاء المدن والبلاد ، وهو محاولة بصرية لتخليد ما كان عامراً وأصبح أثراً، في اختلاط بين الزمان والمكان ومصائر البشر.
لا أدري إن كان بوسع الفنون والآداب كلها ، أن تبدع نصاً أو شيئاً موازياً للأهوال التي عاشتها هذه البلاد خلال أربع سنوات.
وإذا كان رثاء المكان الصغير الذي سماه الشاعر” الجحر العظيم “… قد كسر لدي عتبة التحمل…فبكيت … فلأن نص نزيه أيقظ ما في مستودعي الانفعالي من المراثي ، ولأنني أنا من يرى كل يوم هذا الخراب المعمم، وهذه الحرب العبثية اليومية . فكأن ما هو مشترك بيننا “من الجحر إلى القبر”… هو تلك المسافة التي يقطعها السوريون ، حفاة ، على أيام الجمر.