ما وصل إليه “الجيش” الإسرائيلي اليوم يمكن اعتباره غير منسجم مع سياق تاريخي منحه مكانة مميزة إلى درجة اعتباره الجهة التي تصمم “الدولة”، والتي تبلور السياسات وتنفذها في آن معاً.
لا شك في أنَّ أزمة الثقة داخل “إسرائيل” من أكثر العناوين التي تعززت بعد طوفان الأقصى. الكلّ لا يثق بالكلّ. الشعب الإسرائيلي لا يثق بالمستوى السياسي، والأخير لا يثق بالمستويات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية، والقبائل الأربع التي تحدث عنها الرئيس الإسرائيلي السابق لا تثق إحداها بالأخرى، إلا أن الأخطر يبقى أزمة الثقة التي طالت “الجيش” الإسرائيلي، وذلك نظراً إلى المركزية التي حظي بها منذ قيام “إسرائيل”.
الإهانات التي وجهها عدد من الوزراء إلى رئيس الأركان لم تبقَ حبيسة الغرف المغلقة التي ازدحمت بالخلافات بعد 7 تشرين الأول 2023. لقد أسهب الإعلام الإسرائيلي في الحديث عنها وكشفها أمام الرأي العام، ثم جاءت الاستقالات والاعتراضات على الناطق باسم “الجيش” الإسرائيلي لتزيد الطين بلة. هذه المؤشرات، إضافةً إلى فشل “الجيش” الإسرائيلي يوم 7 تشرين الأول وخلال الحرب التي يشنها منذ أكثر من 6 أشهر، شكلت عوامل تؤكد أن مكانة “الجيش” الإسرائيلي اهتزت، وأن الترميم ليس سهلاً.
ما وصل إليه “الجيش” الإسرائيلي اليوم يمكن اعتباره غير منسجم مع سياق تاريخي منحه مكانة مميزة إلى درجة اعتباره الجهة التي تصمم “الدولة”، والتي تبلور السياسات وتنفذها في آن معاً.
يقول البروفيسور ميخائيل بار يوسيف في كتابه “المشهد الذي كان”: “إن الجيش استمد هذا التأثير من الواقع الأمني الذي تعيشه الدولة منذ تأسيسها، إذ أقنع قادة الدولة الجمهور الإسرائيلي بأن مخاطر وجودية تحيق بالدولة ومستقبلها، ولا مناص من مواصلة الارتباط بالمؤسسة الأمنية التي يقع على كاهلها عبء مواجهة هذه المخاطر. من هنا، كان هناك ما يشبه التقديس للجيش وللدور الذي يقوم به”.
ويرى زئيف شيف، المعلق العسكري، أن التأثير الواسع للجيش مرده “ضعف القيادة السياسية وحالة الترهل التي تعم الجسم السياسي الحزبي الإسرائيلي الذي يعاني الفساد والفضائح، ما قضى على صدقية المستوى السياسي وقلص من قدرته على المناورة في مواجهة العسكر”، إلا أن اللافت وما يدركه كل من يتتبع الأحداث والتطورات في “إسرائيل” أن أداء الجيش لم يكن أفضل من أداء المستوى السياسي. إضافةً إلى الإجرام والتوحش الذي يمارسه “الجيش” الإسرائيلي في الجبهات الخارجية من دون أي وازع، لا يتردد العسكريون في ارتكاب الكثير من الموبقات والمخالفات في الجبهة الداخلية، وعلى رأسها رفض الالتزام بالقرارات السياسية بطريقة فجة، انطلاقاً من حسابات سياسية وطموحات شخصية تدفع المستوى العسكري إلى أداء أدوار غير نظيفة في الحياة السياسية والحزبية، إضافة إلى ممارسة الكذب والتلفيق في الكثير من المحطات.
عام 1998 مثلاً، رفض رئيس الأركان في ذلك الوقت شاؤول موفاز، الذي تبوأ فيما بعد موقع وزير الأمن، تنفيذ أوامر رئيس الحكومة آنذاك نتنياهو القاضية بوضع خطة للانسحاب من لبنان. هذا ما كشفه الصحافي الإسرائيلي بن كاسبيت. أما حين أصر إيهود باراك الذي خلف نتنياهو على الانسحاب من جنوب لبنان، فإن “الجيش” لم يتأخر في تدفيعه ثمن إصراره على ما لا يريده الجنرالات.
قام هؤلاء بتسريب وثيقة لقادة الليكود أطلق عليها وثيقة “تشاوبر”، تدعي أن باراك يعد لتقديم تنازلات “قاتلة لإسرائيل” في هضبة الجولان. وقد اتهم يوسي بيلين وزير القضاء في حكومة باراك قادة الجيش بتسريب الوثيقة من أجل إحراج رئيس الحكومة سياسياً.
قبل الانسحاب من لبنان بسنة، وتأكيداً على الهامش الكبير الذي يتحرك فيه “الجيش” الإسرائيلي، رفض ضباطه تزويد باراك بخرائط ليحملها معه إلى مؤتمر كامب دافيد الذي عقد أواخر العام 1999. وقد عبر نائب وزير الدفاع الإسرائيلي أفرايم سنيه عن امتعاض وانزعاج شديدين عندما قال: “العسكريون من رئيس هيئة الأركان وحتى أصغر ضابط لا ينفذون أوامر باراك، وكل واحد منهم يفعل ما يحلو له”.
في الحقيقة، لا يفعل الضباط ما يحلو لهم فحسب، بل ما يناسب طموحاتهم السياسية غير المخفية أيضاً. في الكثير من الأحيان، يصبحون طرفاً مباشراً في المناكفات السياسية بين الأحزاب وداخل الحزب الواحد، ويستخدمون خلاصات عمليات تجسسهم على السياسيين بما يخدم توجهاتهم الأيديولوجية، وبما يضمن لهم موطئ قدم في الأحزاب بعد تسريحهم من الجيش.
في المقابل، لا يتردد المستوى السياسي في إخضاع الترقيات والتعيينات في المناصب العليا في “الجيش” الإسرائيلي لاعتبارات الولاء الأيديولوجي والحزبي والانتماء الاثني وعلى قاعدة المصلحة الشخصية.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات، تمت ترقية الجنرال دان حالوتس من قبل شارون إلى موقع نائب رئيس الأركان تمهيداً لتعيينه في منصب رئاسة الأركان. عقب هذا التعيين، كتب المعلق العسكري رانمي ايديليس أنَّ الكل يدرك أن معظم أعضاء هيئة أركان الجيش أكثر ملاءمة من حلوتس.
وزير الأمن الأسبق إسحاق مردخاي أصر بدوره في العام 1999 على تعيين شاؤول موفاز في منصب رئيس هيئة أركان الجيش بسبب جذوره الطائفية، إذ إن مردخاي الشرقي كان يصر على أن يتولى المنصب جنرال من أصول شرقية، على الرغم من معرفة كثيرين بأن موفاز كان أقل أعضاء هيئة أركان “الجيش” إبداعاً من الناحية العسكرية.
في بعض الأحيان، تذهب الأمور أبعد من ذلك. تكشف معاريف عام 2002 أنَّ قادة “الجيش” إبان حكم باراك غضبوا عندما اكتشفوا أن عميداً في الجيش يدعى شاؤول أرئيلي وافق على اقتراح باراك بتولي المسؤولية عن ملف الأمن في المفاوضات مع السلطة.
تؤكد الصحيفة أن رئيس الأركان في ذلك الوقت شاؤول موفاز حاول إغراءه ووعده بترقيته إلى رتبة جنرال إذا اعتذر ورفض الإذعان لرغبة باراك، فما كان من أرئيلي إلا أن استقال وكتب رسالة شخصية لموفاز، قال فيها: “أنا لا أحترمكم، فأنتم في نظري بمنزلة خلل شديد وكارثة وطنية. أنا أرغب في التسرح”.
خطوة أرئيلي بالاستقالة من “الجيش” لا يلجأ إليها الضباط بسهولة، وذلك خوفاً من فقدانهم الامتيازات المالية التي يتمتعون بها، والتي تعتبر خيالية. راتب الجنرال في “الجيش” الإسرائيلي يفوق راتب رئيس الوزراء.
كما يحصل المتقاعدون العسكريون على مخصصات تقاعد خيالية، ما دفع الكاتب الإسرائيلي بي ميخائيل إلى توجيه اتهام إلى قادة “الجيش” بأنهم “يقاتلون من أجل أن يتواصل الصراع مع العرب، لأنهم يعرفون أن انتهاء هذا الصراع سيقضي على الامتيازات التي يحصلون عليها”، واعتبر أن الإسرائيليين “سيندمون أشد الندم على تدليل الجنرالات”.
تجدر الإشارة إلى أن تأثير العسكر لا ينتهي بمجرد خلعهم الزي العسكري. يتبوأ عدد كبير مقاعد في الحكومة والبرلمان، ويقود الجنرالات المتقاعدون معظم الشركات الحكومية والمؤسسات المرتبطة بها.
ويلتحق الضباط المتقاعدون بمجال التعليم ووسائل الإعلام، ويعملون مراسلين ومعلقين عسكريين، وهذا ما يغلّب رواية “الجيش” للأحداث داخل “إسرائيل”، ولو شاب هذه الرواية الكثير من الكذب والتلفيق.
بالفعل، يدرك كثيرون في “إسرائيل” أن “الجيش” يكذب. الكذب وفبركة الوقائع هما ثقافة مستشرية لدى الجنود والضباط والاستخبارات العسكرية. هذا ما تحدث عنه الكاتب عكيفا الدار قائلاً: “اعتاد قادة الجيش والمخابرات تدوير الزوايا والعيش مع الأكاذيب بسلام”.
أما وزير التعليم الأسبق يوسي ساريد، فقد حذر من خطورة اعتماد الحكومات على تقييمات جهاز الاستخبارات العسكرية “أمان”، وقال “إن قادة هذا الجهاز يعملون على فبركة التقييمات الاستراتيجية لكي تتلاءم مع مواقفهم الأيديولوجية من دون أي اعتبار للموضوعية”.
وزير المالية الأسبق دان مريدور أطلق التحذير نفسه، واعتبر أن تعاطي الحكومات الإسرائيلية مع تقييمات “أمان” كما لو كانت بقرات مقدسة يشكل خطراً على “إسرائيل”، وأنه وصل إلى استنتاج بأن “هناك قدراً من التلفيق والتضليل في تقييمات أمان”.
كل هذا قبل طوفان الأقصى. أما بعده، فالأمور مختلفة. لا شك في أن “إسرائيل” تغيرت وتغيرت معها مكانة “الجيش” الذي لم يعد محط ثقة الجمهور ولا المستوى السياسي.
ويبدو أن الكثير من السكاكين تشحذ لطعن “البقرة المقدسة”، وربما لذبحها.
الميادين نت