الحروب كمحفِّز على النهضة والتنمية
أثبتت الوقائع التاريخيّة أنّ النهضة الإنسانيّة، بتجلّياتها كافّة، لا تبرز إلى الوجود إلّا بعد أن يعاني الإنسان قبلها من كوارث كبيرة، تؤدّي إلى تغييرٍ ملموس في بنية المجتمع، وركائزه السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، بشكلٍ يساعد في تصويب الاتّجاه نحو تحقيق هدف المسيرة الإنسانيّة، وبناء الإنسان وتصاعُد نموّه. وبما أنّ الحروب والنزاعات لم تكُن على مدى التاريخ إلّا وبالاً وكارثة على الإنسان، فقد واجَهَ الإنسان العربيّ تداعيات خطيرة على مدى السنوات الثماني الماضية مع بداية حركات “الربيع العربي” التي بدأت منذ العام 2011.
يشهد التاريخ على أنّ مرض الطاعون الذي اجتاح أوروبا في القرن الرابع عشر، حصدَ أرواح الملايين من البشر، ثمّ أعقبته بعد ذلك حضارة متقدّمة. كذلك الحرب العالَمية الثانية في ثلاثينيّات القرن العشرين، التي قضت على ما يزيد على خمسين مليون شخص، ودمَّرت ملايين المنازل والمَباني والمؤسّسات، وكانت بمثابة صعقة كهربائيّة، أعادت سكّة الإنسانيّة إلى الاتّجاه الصحيح، فحقَّق العالَم، بعد حربٍ طاحنة، قفزة جريئة وكبيرة من التقدُّم العِلمي والتكنولوجي، نشهد حاليّاً انعكاساتها الإيجابيّة في تطوُّر الاقتصاد العالَمي ونموّه.
إنّ نجاح المجتمعات الغربيّة وتفوّقها في تأسيس صرْحٍ عتيد لنهضةٍ عِلميّة وأدبيّة، كان بمثابة ردّ فعلٍ حاسِم ومصيري لِما عانته من حروبٍ ومآسٍ مختلفة ومتنوّعة، حتّى اقتنعت إلى حدٍّ بعيد بأنّ الإنسان هو نفسه مَن يملك مفاتيح النجاح والبناء، ويتحكَّم بآليّات الفشل والتهديم. وبالتالي، فإنّ أيّ تطلُّعٍ جاد لمستقبلٍ مُزهر وعَهد مُشرق، لا يُمكن أن يتحقَّق إلّا عن طريق الإنسان، ذاك المخلوق العجيب، وما يملك من قدراتٍ فائقة، وبلا حدود، للخلْق والإبداع والتطوّر. لذلك استطاعت هذه المجتمعات أن تُعيد بناء الإنسان الأوروبي، مثلما تعيد تخطيط أيّ مشروع آخر وتنفيذه.
بعد الحرب العالَميّة الثانية، وحتّى نهاية عقد الثمانينيّات من القرن الفائت، اقتصر مفهوم التنمية على الكميّة التي يحصل عليها الفرد من سِلعٍ وخدمات ماليّة، حيث كان الاهتمام مُنصبّاً فقط على النظرة الاقتصاديّة من خلال التركيز على النموّ الاقتصادي، كمِعيار حقيقي للتقدُّم والتنمية. ولكنْ في العام 1990، تبنّى بَرنامج الأُمم المتّحدة الإنمائي مفهوماً للتنمية البشريّة، حدَّد بموجبه الإنسان بأنّه “صانع التنمية وهدفها”، انطلاقاً من أنّ البشر هُم الثروة الحقيقيّة للأُمم، وأنّ قدرات أيّ أمّة تكمن في ما تمتلكه من طاقات بشريّة مؤهَّلة ومُدرَّبة، وقادرة على التكيُّف والتعامُل مع أيّ جديد. وفي العام 2002، تبنّى البَرنامج مفهوماً للتنمية الإنسانيّة بديلاً عن التنمية البشريّة، وذلك في أوّل تقرير له بعنوان “التنمية الإنسانيّة العربيّة للعام2002″، وتمَّ تعريفها بأنّها “عمليّة توسيع الخيارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة”، وتهدف إلى “تنمية الناس، من أجل الناس، من قِبل الناس”، وتشمل بناء القدرات الإنسانيّة عن طريق تنمية المَوارِد البشريّة.
الربيع العربيّ
لقد أَجمعت معظم التقارير على أنّ الصراعات الأمنيّة والسياسيّة التي بدأت في العام 2011 مع أحداث “الربيع العربي”، أَنتجت خسائر ماليّة واقتصاديّة كبيرة قُدِّرت بأكثر من تريليون دولار، وأثَّرت بشكلٍ مباشر على نحو 87 مليون شخص في أربعة بلدان عربيّة هي: العراق، سوريا، ليبيا، واليمن، وفق تقريرٍ خاصّ للبنك الدولي، أي نحو ثلث سكّان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا(تقرير الآفاق الاقتصاديّة العالَميّة 2018: منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، البنك الدولي، 2018. وأشار التقرير إلى أنّ نحو 45 مليون شخص في هذه البلدان يحتاجون إلى مُساعدات إنسانيّة (13,5 مليون في سوريا، 8,2 مليون في العراق، 21,1 مليون في اليمن، 2,4 مليون في ليبيا)، فضلاً عن ارتفاع معدّلات الفقر ونِسب البطالة. وانعكست تلك الصراعات بشكلٍ سلبي على استقرار ملايين الأُسر وقلَبت حياتهم رأساً على عقب. ولوحِظ أنّ الضرر على النساء كان كبيراً جدّاً، بخاصّة أنّهنّ غالباً ما يكنّ هَدفاً لعنفٍ مُمنهَج، وأنّ بنية الأسرة تفكَّكت وتضرَّر كلّ فردٍ فيها بشكلٍ متفاوت، لكنّ الوزر الأكبر للضرَر تحمَّله الأطفال الذين فقد كثيرٌ منهم الأمان العاطفي، مع العِلم أنّ المجتمعات تكون ضعيفة بضُعف الأسرة وقويّة بقوّتها. وهكذا أصبحت الأُسر التي تعاني تبعات الحروب مُختلَّة، ويشمل هذا الاختلال الثقافة والتقاليد وأسلوب الحياة وأهداف الأسرة وأدوارها.
لا شكّ في أنّ عدم نجاح التنمية العربيّة في تحقيق أهدافها، وخصوصاً لجهة نموّ الإنسان العربي وتطوّره، شكَّل حافزاً قويّاً للتحرّكات الاجتماعيّة التي أسهَمت بشكلٍ كبير في انفجار انتفاضات “الربيع العربي”، وعلى الرّغم من الاختلافات في تجارب التنمية العربيّة، إلّا أنّها كانت مُتقارِبة في فتْح الأبواب لفئات رأسماليّة جديدة يهمّها الكسْب السريع على حساب مصلحة الشعوب وسُبل عيشها، وبمَعزلٍ عن الضوابط والمَعايير القيَميّة المجتمعيّة. مع الإشارة إلى ضخامة الاستثمارات التي قُدِّرت بأكثر من 3,4 تريليون دولار خلال أربعة عقود ونصف العقد منذ بداية السبعينيّات، وقد نُفِّذت بتكلفة اجتماعيّة باهظة وهدْرٍ للمَوارِد، وبأخطاءٍ كثيرة، مع تكريس التنمية القطريّة، من دون الاعتبار لأيّ عملٍ تكامُليّ عربيّ؛ لذلك أُطلق عليها تجارب “تنمية الفُرص الضائعة”. حتّى أنّ تلك الاستثمارات لم تتمكَّن من تصحيح التشوّهات الهَيكليّة في الاقتصادات العربيّة التي بقيت على ضُعفها وتفكّكها، واستمرار اعتمادها بشكلٍ كبير على الدول الغربيّة.
توزيع الدخل وعدم المُساواة
تؤكِّد معظم الدراسات والتقارير أنّ النموّ السكّاني يُعَدّ أوّل التحدّيات التي تُواجِه الدول العربيّة، لمؤثّراته السلبيّة التي تزداد بشكلٍ كبير نحو امتصاص نتائج التنمية، وزيادة الطلب على المَرافِق العامّة والخدمات الصحيّة، وهدْر المَوارِد المُتاحة وإعاقة تنميتها، والحدّ من مُتطلّبات خِطط التنمية الطموحة، بخاصّة في مجال خلْق فُرص عمل جديدة لمُكافَحة البطالة. مع العِلم أنّ الحاجة أصبحت مُلحّة لتوفير أكثر من ستّة ملايين فرصة عمل، وأنّ هناك 50 في المئة من الوظائف الموجودة حاليّاً، لن تكون متوافرة في المستقبل، في الوقت الذي تنحسر فيه الاستثمارات البَيْنيّة العربيّة.
ومع ازدياد عدد العاطلين عن العمل، تبرُز مشكلة البطالة المُستمرّة في التفاقُم، كمتغيّر ونتيجة لتحوّلات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، متأثِّرة بتداعيات الحروب والاضطّرابات الأمنيّة وما نتجَ عنها من نزوحٍ وهجرة، داخل المنطقة العربيّة وخارجها، وشملت ما لا يقلّ عن 20 مليوناً من أربعة بلدان معنيَّة ( العراق، سوريا، ليبيا، اليمن)، فضلاً عن بعض البلدان المُجاورة لها. وتُعدّ هذه المشكلة أحد أهمّ مَظاهِر تراجُع النموّ، وهي ليست مُقتصرَة على الدول الفقيرة أو متوسّطة الدخل التي تُصدِّر القوى العاملة، وإنّما تشمل أيضاً الدول التي تُعتبَر غنيّة أو الدول المُنتجة للنفط، وخصوصاً بعد الانخفاضات والتذبذُبات التي شهدتها أسعار النفط خلال العقدَين الأخيرَين، فضلاً عن تراجُع الإنتاجيّة، وارتفاع العجز ومعدّلات المديونيّة، واختلال سلّم الأجور، وتردّي مستويات المعيشة.
نهضة إنسانيّة
هذه التطوّرات السلبيّة كلّها انعكسَت بشكلٍ أو بآخر على الإنسان العربي، الذي يعيش في عالَمٍ متغيّر ومتطوّر، فيما هو ينتقل من وضعيّة إلى أخرى بوتيرة مُتسارِعة، ما يجعل الوطن العربي في تحدٍّ كبير لبِناء نهضة اجتماعيّة واقتصاديّة شاملة تدوَّن في سجلّ التاريخ إلى جانب النهضات الأخرى التي عرفتها الإنسانيّة. واليوم، وفي الوقت الذي تعيش فيه أوروبا، نسبيّاً، عهداً من الوحدة والأمن والسِّلم الاجتماعي بين شعوبها بعدما نجحَت في تجاوُز مخلّفات الحرب العالَميّة الثانية وتداعياتها، يعيش الإنسان على امتداد الوطن العربي وسط كوارث إنسانيّة، تشهد الحروب والاقتتال، والصراعات بأنواعها المُختلفة، وتجرّ إلى التقاتل والتناحُر، وتهدِّد بالتقسيم بكلّ أشكاله.
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أهميّة الدعوة الصادرة من اللّجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغرب آسيا (الأسكوا) التّابِعة للأُمم المتّحدة، إلى إحياء فكرة التكامُل بين الدول العربيّة، على أنّها “السبيل الوحيد لتحقيق نهضة إنسانيّة”، وإنقاذ الوطن العربي الذي أصبح اليوم أشبه بسفينة تتقاذفها أمواج عاتية، وخصوصاً أنّ المنطقة العربيّة التي تضمّ أقلّ من خمسة في المئة من مجموع سكّان العالَم، تشكِّل مَصدراً لأكثر من نصف لاجئيه، وهي اليوم أقلّ تصنيعاً ممّا كانت عليه في ستّينيّات القرن الماضي، وتُنافِس على المرتبة الدنيا بين مناطق العالَم في مستوى الإنتاجيّة.
ولا يختلف المُراقبون في توصيف المأزق التنموي الذي وصَلت إليه المنطقة، من تخلّف مَعرفي، وهَشاشة في البنى الاقتصاديّة، وتفشّي الفقر، وكلّها وليدة عقود من التشرذُم والإخفاق في نهْج التنمية السياسيّة والاقتصاديّة، ولاسيّما بعدما انتشر الفساد بمختلف أشكاله، وتبوَّأت دولٌ عربيّة مَراكز متقدّمة في لوائحه عالَميّاً.
ويؤكّد تقرير الإسكوا: “التكامل العربيّ سبيلاً لنهضة إنسانيّة” (الإسكوا،2014)، أنّ إسقاط نِظام حُكمٍ هنا أو هناك، لم يكُن إلّا أحد التحوّلات الأوليّة للانتفاضات. أمّا أهمّ نتائجها، فهو ولادة إنسان عربي جديد، ينشد حريّته ويُدرك حقوقه، ويعتزّ بثقافته، ويثق بقدراته وإمكاناته .
وإذا جاءت دعوة الإسكوا في وقتٍ يعاني فيه الوطن العربي من صراعات داخليّة مريرة ، تصل إلى حدّ الحروب المروّعة في بعض أجزائه، نتيجة عقود طويلة من الإقصاء والتهميش قطريّاً، والتشرذُم إقليميّاً، فإنّ تأجيل التكامُل العربي إلى حين نهوض كلّ مكوّنات الوطن، إنّما يُضيِّع فرصة تاريخيّة ونادرة لقيام مشروع نهضة إنسانيّة، تتَّخذ من فُرص التغيير التي لم تشهد مثلها المنطقة منذ قرون، جسر عبور، في حين أنّ أيّ تأجيل إنّما يؤدّي إلى إدامة الواقع الرّاهن الذي أَعجز الوطن والمُواطن عن النهوض بالجزء، أي قطريّاً، وبالوطن العربي، أي كليّاً، مع العِلم أنّ المشهد العربي لم يخلُ من إضاءات تجعل الحلم مُمكناً، وخصوصاً أنّه مع نهاية العقد الأوّل من الألفيّة، عمَّت البلدان العربيّة صحوة شعبيّة اتَّخذت مَلامح عدّة، بشَّرت بإمكانيّة الخروج من المَسار الرّاهن إلى المَسار المنشود، بإرادة شعوب توّاقة إلى التحرُّر والنهضة. فهل تنتقل المنطقة العربيّة، عبر مشروعٍ جدّي ورصين، من إرث التعثُّر وزمن الاستباحة، الى زمن نهضة إنسانيّة شاملة؟
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)