الخصوصية عباءة الجبناء
الخصوصية تمنحك التفاعل الإيجابي مع العالم، لا الانطواء والاكتفاء بالتفرج أو الاستهلاك السلبي لإنجازات الآخرين، فلا وجود لمجتمع دون خصوصية ـ إن لم نقل خصوصيات ـ متنوعة، متداخلة، وحتى متضاربة في الكثير من الحالات.. وعليه فإن القول بالخصوصية المجتمعية كذريعة لتبرير الوقوف في وجه التنمية والتطور هو ضرب من العدمية ويشبه القياس على فكرة ” كل جديد فهو بدعة وكل ذي بدعة مكانه الجحيم”.
ما أقدم عليه ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، من مبادرات جريئة ضمن حملة التطوير الشاملة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، ينم عن فهم واستيعاب للمرحلة، وإدراك بأن الخسائر سوف تكون فادحة إن لم تتملك بلاده زمام المبادرة وتفكر في مشاكلها بصوت عال بدل الانضواء تحت عباءة ” الخصوصية السعودية” التي يروج لها المحافظون والمتشددون والمنتفعون على حد سواء.
الأمر ينطبق على باقي الدول العربية التي ما زال الكثير من حكوماتها يتحدث باسم الخصوصيات القطرية والمجتمعية والدينية وغيرها من المفاهيم الهلامية عديمة الفائدة في عالم يتطور ويتشكل على إيقاع ثورات رقمية هائلة.
الأجدر أن نتحدث عن خصوصيات تتأسس على سرعة وإيجابية التفاعل والتأثير في الآخر، والسباق لامتلاك زمام المبادرة. ومن ضمن النماذج التي تعد ناجحة في هذا الأمر ـ وكي لا نوغل في التشاؤم ـ هي ” الخصوصية التونسية” التي تأسست على منظومة قوانين وتشريعات متطورة، مكنت تونس الآن من تجاوز صعوبات كثيرة تتخبط فيها دول أخرى، وذلك نتيجة ل ” خصوصية” ثقافية أو مجتمعية تتمسك بها من غير وعي أو تخطيط.
الأسرة نفسها هي مجموعة من الخصوصيات الفردية في المأكل والملبس والتفكير، لذلك وجب النظر إلى النسق التطوري كقدر لا مفر منه، وكحقيقة لا تنتهك حق الفرد في أن لا يشبه إلا ذاته بل وعليه أن لا يشبه إلا نفسه.
ما زال هناك بعض الأصوات في السعودية مثلا، تتحدث عما يعرف ب ” الخصوصية السعودية” وتستخدم هذا المصطلح المتكرر ذريعة لصد أي موجة تطوير ورفض أي حركة تحديث. هذا الطرح لم يعد مقبولا في ظل الانفتاح السعودي على العالم، والدور القيادي الذي تقوم بلعبه في المنطقة، إذ لم يعد من الممكن القبول بفكرة الخصوصية السعودية كجدار عازل عن العالم، فهذه الخصوصية لم تعد تليق بدولة في صدارة العالم العربي والإسلامي، ودولة عضو في تكتل مجموعة العشرين التي تقود العالم اقتصاديا.
هذه “الخصوصية السعودية” التي يتحدث عنها المتشددون والمغالون من المحافظين، حرمت سعوديين كثيرين من الانفتاح الثقافي على العالم والتعرف على الفنون والآداب من الحضارات والثقافات المتنوعة، كذلك كان لهذه الخصوصية نفسها الدور المانع في الانفتاح على المؤسسات التعليمية العملاقة لفتح فروع لها في السعودية، وكذلك الأمر بالنسبة للتردد في فتح الأسواق بشكل كامل، لجذب الاستثمارات بأسلوب منافس ومغر، وهو الحاجز الذي وقف عائقا من الاستفادة من مئات الآلاف من العاملين في مجال التجارة الموازية، بدلا من تقنين وضعهم بشكل قانوني ومنحهم حق التملك بدلا من إبقاء هذه المنظومة الاقتصادية الفعالة والمهمة خارج الإطار الاقتصادي النظامي، وعدم الاستفادة من مئات من المواهب الفريدة في بلادها من جنسيات العالم، وتمكينهم من الحصول على جنسية البلاد للاستفادة القصوى منهم، وذلك بالسماح لهم بالتملك العقاري والمشاركة في الاستثمار المحلي.
السؤال الموجه للمجتمعات العربية التي ما زالت تناقش مخاطر العولمة وضرورة الحفاظ على الخصوصية الثقافية، هو: هل وضعت العولمة السكين في رقابكم، وطالبتكم بتغيير جلودكم أو طرق تفكيركم وعيشكم؟
العولمة لم تطلب ذلك لأنها ليست قوة بالمفهوم التنفيذي الملزم بل هي منطق شكلته مجموعة عوامل معرفية واقتصادية وسياسية، خيّرك بين أن تنخرط فيه أو تعيش على هوامشه. العولمة عربة قطار إما تقلها أو تجعلها تمضي وشأنها ثم تتحمل مسؤوليتك، وتعض أصابعك نادما حين لا ينفع الندم.