الذين عاشوا حرقة وماتوا احتراقاً
“لو شبّ حريق وحاصرت النيران قطّة في منزلك الذي يضمّ أنفس لوحة فنية وأغلاها على قلبك فأيهما أولى بالإنقاذ، القطة أم اللوحة ؟”.
هكذا فاجأتنا المدرّسة الفرنسية بهذا السؤال الذي يبدو في نظرها مربكاً وكنّا وقتها في سن المراهقة، فتية وفتيات نرتجف برداً تحت سقف المدرسة المتهالكة والتي ورثتها دولة الاستقلال عن المستعمر الفرنسي دون أن تزيد عليها شيئاً غير العلم ونشيد البلاد ومادتي العربية والتربية “الإسلامية ” و”الوطنية “.
رسمت المدرّسة الخمسينيّة الأنيقة على وجهها نصف ابتسامة وجالت بناظرها نحو وجوه التلاميذ الخالية من أي تعبير غير الإحساس بشدّة الصقيع وانتظار جرس الاستراحة للاصطفاف أمام وجبة “السحلب ” ...التقليد الذي حافظت عليه إدارة المدرسة مع تعديل ينقص من دسامته ويذهب بطعمه.
كانت الأجوبة التي انتزعتها منّا انتزاعاً خجولة ومتردّدة بسبب نقص الحماسة وعدم أهمية السؤال في نظرنا، ذلك أنّنا ـ ببساطة ـ لا نملك ولا نعرف معنى ” لوحة نفيسة ” ولم نخض تجربة إنقاذ قطّة من القطط التي نراها كل يوم تلهو في المزابل، بل وتنافس الكثير من أترابنا الفقراء على طعامهم اليومي .
أذكر أنّ الفتيات ـ وخاصة الميسورات منهنّ ـ كنّ أكثر تحيّزاً للقطّة، أمّا أغلبنا فقد استفسر قبل الإجابة عن معنى كلمة ” لوحة نفيسة ” وإن كانت تباع بمال يضمن احتياجاتنا الصغيرة من ثياب سميكة وطعام جيّد، غير أنّنا أصبنا بإحباط شديد حين أجابت بلغة حاسمة ” إنها لا تقدّر بثمن ” فعدنا وعدّلنا من آرائنا لجهة الأولويّة في إنقاذ القطّة فما فائدة لوحة لا تباع، لعلّ القطة أنفع في اصطياد الفئران ومطاردة بعض الحشرات والزواحف الصغيرة .
الآن وبعد عقود من مرور هذا السؤال على رأسي الصغير الأسود آنذاك، وبعد أن شاهدت أنفس اللوحات وأغلاها في أرقى متاحف العالم وبعد أن تعرّفت إلى أندر الأصناف السياميّة والفارسية والتركيّة والشاميّة من القطط التي تباع في أشهر المزادات وبأسعار خياليّة …الآن أعود إلى نفس السؤال الذي طرحه علينا الوجه البشوش للمستعمر الفرنسي عبر سليلته، المدرّسة الناعمة التي صفعتني بقفّازها الحريري في ذاك الصباح التونسي البارد وأزيد عليه، ” لقد حفظت من زميلك مدرّس التربية ذي الصوت اللطيف والذقن الحليق حديثاً نبويّاً مفاده أنّ امرأة دخلت جهنّم بسبب حبسها لهرّة في البيت ..ودون أن تسأل عن جنس الهرّة ونوعها وثمنها، كما تعلّمت من الأدب الفرنسي الذي درّسته لنا بمهارة وأمانة أن البطون الخاوية لا تتذوّق الفن الرفيع قبل أن تشبع .
لكم كان بودّي سيدتي أن أعرّفك على أعمال حسيب كيالي الذي عاش حرقة ومات احتراقاً …وعن صديقي الفنان مصطفى الحلاّج الذي أسلم الروح بعد أن صارع ألسنة اللهب في مرسمه الدمشقي وأنقذ قطّته مع ما يمكن إنقاذه من لوحات تحكي موطنه الخالد فلسطين …موطنه الذي لا يقدّر بثمن.