الربط بين المياه والسلام يعد ببداية جديدة في الشرق الأوسط (إيلماس فوتي هالي)
إيلماس فوتي هالي
انقضت سنة الأمم المتحدة للتعاون في مجال المياه. وقريباً أيضاً، في عام 2015 تحديداً، تنتهي السنوات العشر التي كرستها الأمم المتحدة كـ «عقد الماء من أجل الحياة»، إذ نجح إقرار الأمم المتحدة بأهمية المياه في جذب انتباه صانعي السياسات نحو هذا القطاع الأساسي خلال السنوات الأخيرة. وتركزت معظم الخطابات على أهمية المياه في التنمية الاقتصادية والنظافة والصحة. لكن، يبدي البعض تردداً في مناقشة الترابط بين المياه والسلام.
فرص ضائعة
خسرت منطقة الشرق الأوسط عدداً كبيراً من الفرص بسبب إخفاقها في الإقرار بأهمية المياه في معادلة السلام. في شهر حزيران (يونيو) 2010، كانت العلاقات بين الأردن ولبنان والعراق وسورية وتركيا سليمة نسبياً. وباستثناء العراق الذي كان يواجه حدوداً يفرضها دستوره حيال الانخراط في الاتفاقيات الدولية، شكلت الدول الأربع منطقة تجارة حرة. وشمل ذلك التعاون في مجالات الطاقة والتجارة والشحن والصناعة. وكذلك شهدت المنطقة تقارباً سريعاً بين تجاراتها واقتصادياتها. ومع اندلاع الأزمة في سورية في بداية عام 2011، انهارت هذه الصورة.
وفي ثمانينات القرن الماضي، شهدت أميركا الوسطى وضعاً مماثلاً، إذ خاضت دولها كافة بما فيها نيكاراغوا والسلفادور وغواتيمالا وهندوراس، حروباً ضد بعضها بعضاً.
وحين انتُخِب أوسكار أرياس رئيساً لكوستاريكا، فتح نافذة فرصة عبر جمعه رؤساء حكومات تلك الدول للاتفاق على السلام والاستقرار وعدم التدخل في سياسات الداخلية لبعضهم بعضاً.
وعقب قبول الخطة التي طرحها أرياس، انخرطت حكومات أميركا الوسطى في اتفاقيات تعاون اقتصادي، على غرار منطقة التجارة الحرة التي نسجتها حكومات الشرق الأوسط الأربعة السالفة الذكر في عام 2010.
إلا أن دول أميركا الوسطى لم تتوقف عند حد التجارة بل عمدت إلى تعزيز التعاون في الإدارة المشتركة لموارد المياه في تلك المنطقة. وساهم هذا التعاون في تقوية عملية السلام في أميركا الجنوبية. وحاضراً، ليس ثمة خطر من اندلاع حرب بين دول أميركا الوسطى.
هناك تجربة أخرى مماثلة. ففي غرب أفريقيا نشب نزاع على الحدود بين السنغال وغينيا. ثم انضمت غينيا إلى منظمة تنمية حوض نهر السنغال. وبعدها، اضمحل هذا النزاع. في الواقع، أدت «منظمة تنمية حوض نهر السنغال» دوراً أساسياً في حل النزاعات الإثنية بين السنغال وموريتانيا.
ليس بالتجارة وحدها
تظهر التجربة في جنوب أميركا وجنوب أفريقيا وجنوب آسيا أيضاً، أن المياه والسلام مرتبطان ببعضهما بعضاً. وعندما تؤدي المياه إلى إحلال السلام ونسج علاقات جيدة بين الدول المتجاورة مائياً، تظهر التجربة أن تلك الدول تنتقل إلى مستوى من التعاون والصداقة أعلى حتى مما كانت تتخيله.
إذن، لا يكفي تحرير التجارة وحده، ربما لأن من الممكن تفعيل حرية التجارة ووقفها بسهولة. وفي المقابل، تحتل المياه مكانة مركزية في نظم الحياة، ما يعني أن من المستطاع أن يولد قرار بالتعاون في هذا القطاع، تأثيرات عميقة على الكهرباء والزراعة والتمدن والهجرة وكسب العيش والاستقرار السياسي.
بالعودة إلى ما سبق ذكره، من المستطاع القول إنه لو تصرف الأردن ولبنان وسورية وتركيا كبلد واحد وركبت إطار عمل للتعاون في ما بينها، لوضعت عملية التعاون في قلب اقتصادياتها وسياساتها. ومن شأن هذا الأمر مساعدتها على بناء الثقة المتبادلة بطريقة جدية.
في نَفَسٍ مشابه، من الممكن القول أيضاً أن التعاون المشترك بين هذه الدول، يمنحها القدرة على المقايضة بين المياه من جهة، ومسائل أساسية كطرق الشحن والطاقة الكهرومائية والاستقرار السياسي من جهة ثانية. وفي هذه الحال، ربما تستطيع تركيا أن تعتمد مقاربة مختلفة تماماً في علاقتها مع سورية والعراق. وربما تفترض سورية أن من الضروري تثمين علاقتها ليس مع العراق وتركيا فحسب بل مع الأردن ولبنان أيضاً. ولعل من الممكن أن تؤدي تلك الأمور إلى استقرار سياسي في لبنان وحل مشكلة نهر اليرموك مع الأردن. بقول آخر، كانت لتتشكل فرصة أمام مستقبل آخر، وهو أمر خسرته المنطقة.
وأظهر تقرير جديد أعدته مجموعة «فورسايت» Strategic Foresight Group المتخصصة في البحوث الاستراتيجية (مقرها مدينة مومباي- الهند) أن أي بلدين ينخرطان في تعاون فاعل في مجال المياه، لا يشنان حرباً على بعضهما بعضاً لأي سبب كان حتى لو كان مرتبطاً بالعقيدة والحدود والتاريخ والاقتصاد. تعي أوروبا هذا الأمر جيداً. لهذا السبب، ترافق الدمج الاقتصادي في أوروبا مع مبادرات ضخمة عن إدارة موارد المياه فيها. وفور انتهاء حروب البلقان عام 1999، وبعد إنشاء نافذة فرصة صغيرة من أجل السلام، قررت الدول التي نشأت بعد تفكيك يوغوسلافيا السابقة، إرساء تعاون في إدارة حوض نهر «سافا». وعقب انتهاء الحرب الباردة، قضت إحدى أولى القرارات التي اتخذتها دول أوروبا الشرقية بالانضمام إلى اللجنة الدولية لحماية نهر الدانوب.
في حال أقر قادة دول منطقة الشرق الأوسط بالمعادلة القوية التي تربط بين المياه والسلام، يغدو بوسعهم التوصل إلى بداية جديدة. وثمة حالياً نافذة فرصة في العلاقة بين العراق وتركيا على رغم التحديات الداخلية بين البلدين.
وفي حال انخرطت حكومتا البلدين في إجراءات بناء الثقة حول نهري دجلة والفرات، يكون بوسعهما إشراك سورية في مرحلة مقبلة، ضمن إطار عملهما التعاوني. ومن المهم إضافة الأردن ولبنان إلى إطار هذا التعاون، باعتبار أنهما يتشاركان أنهاراً مهمة مع سورية. وفي حال حصول آلية تعاون إقليمي بين العراق والأردن ولبنان وسورية وتركيا من أجل موارد المياه، فمن شأن هذا الأمر فرض سلام شامل في أرجاء منطقة الشرق الأوسط.