الرحلة التي أضاءت وعي الـ Che
الرحلة التي أضاءت وعي الـ Che…. سيرافقنا هدير الدّراجة النارية المتهالكة وهي تحرث الطريق نحو شرايين أميركا اللاتينية المفتوحة على البؤس، في تلك الرحلة العجائبيّة التي بزغت فجأة في ذهن إرنستو غيفارا (1928- 1967) وشريكه ألبرتو غرانادو.
لكن الدّراجة «لا بوديروسا /الجبّارة» ستتعطّل في منتصف الطريق بعدما تحوّلت إلى كومة عظام معدنية، ليكملا الرحلة في شاحنات وقوارب وطوّافات، والمشي على الأقدام، ولن نستهجن لجوءهما إلى مخافر الشرطة للنوم. يوثق غيفارا في النسخة العربية المنقّحة من كتابه «يوميات دراجة نارية» (دار ورد، ترجمة صلاح صلاح) وقائع تلك الرحلة التي قام بها في عام 1952، بوصفها إقلاعاً أولياً صوب العالم الخارجي، محاولاً اكتشاف ألغاز تلك القارة المجهولة، وخريطة جينات أميركا الجنوبية بروح الحالم، الرحلة التي كانت نواة وعيه الثوري اللاحق. لكننا هنا إزاء دون كيشوت متمرّد يحارب طواحين هواء من نوعٍ آخر، في عبوره الخرائط الممزّقة لأميركا اللاتينية، من الأرجنتين إلى بنما والأنديز وصولاً إلى تشيلي، ومنها شمالاً إلى بيرو وكولومبيا، وانتهاء بكاراكاس: «انطلقنا في طريق جبلي رائع، أجمل ما يمكن للحضارة أن تقدمه، بالمقارنة بعجائب الطبيعة الحقيقية التي لم تخربها أيدي البشر، في شاحنة تحمل أمتعتنا الثقيلة، نحن المتحررين من الأحمال».
سنتعرّف إلى المآسي التي يعيشها عمّال مناجم النحاس، ومصحّات الجذام، والتضاريس المتباينة لهذه الجغرافيا الغارقة في المآسي من جهة، ودرجات الروحانية بين إقليم وآخر، من جهة ثانية. شخصان حالمان ومفلسان يقطعان الدروب بقوة المغامرة وحدها، وإذا بالرحلة التي امتدت لأشهر، ستضيء لاحقاً شخصية «تشي»، الشخصية التي ستتحوّل إلى إحدى أيقونات القرن العشرين، ليس في أميركا اللاتينية فقط، وإنما في معظم أنحاء الكوكب، بوصفها مصدر إلهام لثوّار العالم. تنطوي هذه اليوميات على التجربة في المقام الأول، والانخراط في حيوات المهمشين من دون ادعاء بطولات خارقة، لكننا لن نستطيع تجاهل ما ستكون عليه هذه الأسطورة لاحقاً لجهة الكاريزما الثورية. فغبار الطريق سيتكشف عن عاصفة غضب وحرب عصابات في مواجهة الديكتاتوريات العسكرية. في وصفه لسحر تضاريس هذه القارة، يبدو غيفارا مأخوذاً بكنوز الطبيعة، وفي الوقت نفسه يعلن حزنه على مصائر هؤلاء البشر المخذولين وكرمهم اللامحدود تجاه الضيف. متطوعان في إطفاء الحرائق وزيارة المستشفيات والأعمال المؤقّتة مقابل قليل من الطعام والنبيذ، وبالطبع سيكون مشروب «المتّة» حاضراً في معظم الأوقات. تحتشد يوميات غيفارا بمناظر جزئية وعابرة، لكن عمق التحديقة يمنحها ثقلاً ومعنى، رغم أسلوبه التهكّمي في توصيف عبثية هذه الرحلة، عدا حسّ المغامرة الذي منحه معرفة إضافية عن أسرار القارة المحزونة. هكذا قطع مسافة 4500 كيلومتر طاوياً الدروب الوعرة وصولاً إلى «سرّة العالم» عاصمة الإنكا ليعود من هناك بالشعلة التي صهرت روحه النقية ومزجتها بآلام شعوب القارة المنهوبة، بدءاً من تاريخ الإبادات الجماعية التي ارتكبتها غزوات الرجل الأبيض وانتهاءً بالأمل الإنساني المعذّب. سنلحظ باكراً بذرة سرد مضاد في بناء العبارة، ووضوح المسلك في ترجمة العاطفة، وفقاً للمرآة الشخصية للراوي، وبوصلته نحو ما هو حميمي وسط البؤس، مستنجداً بمقولة أوسكار غالفير الملهمة «عندما يمكن لسلك أن يحل مكان برغي، أعطني السلك لأنه أكثر أماناً».
نتتبع محطات الرحلة، كما لو أنها مكتوبة بعدسة كاميرا، لا يشوشها غبش الرؤية، ذلك أن البعد البصري لليوميات يواكب طزاجة السرد، والحسّ الصميمي بهوية أميركا اللاتينية في مواجهة المحاولات الرأسمالية لطمس تراثها المحلّي ونهبه «بعد هذه الرحلة، أدرك أكثر من أي وقت مضى أن تقسيم أميركا اللاتينية إلى أمم غير مستقرة ووهمية هو خيالي تماماً، نحن نشكل عرقاً هجيناً واحداً يحمل من المكسيك إلى مضيق ماجلان خواص إثنوغرافية فذة متشابهة». أفكار أولية، ستتحوّل في مرحلة أخرى إلى حطب في مواقد الثورات، ذلك أن هذا الشاب الذي هجر دراسة الطب، أدرك باكراً أن الجسد المريض للقارة يحتاج إلى مبضعٍ آخر «سقطنا في الشرك والصنارة وخيط الصيد» يقول، موضحاً حجم الخسائر والأرباح في هذه الرحلة التي قادته إلى أبعد قرية في القارة المنكوبة، مقتسماً الخبز والمتّة والأغطية مع غرباء عابرين. يشير تشينتيو فيتير في تقديمه اليوميات بأن كتابة «تشي» نابضة بالحياة، فهو يصوّر الأشياء بأبعد ما يراها، بلمسة حميمة، ودمغة لا تنسى، من دون أن يسهب في «شعر الصورة العارية، إنما يجذب الكلمات صوبه، ما يشكّل لمسته الأدنى المتحوّلة إلى واقع»، وينوّه إلى مهارته في تظهير مشاهداته. على الأرجح هذا ما أغرى المخرج البرازيلي والتر ساليس باقتباس مقاطع من اليوميات في فيلم روائي طويل (2003)، مستثمراً البعد البصري في اليوميات والجغرافيا المفتوحة على أكثر من بلد.
يختتم غيفارا يومياته بلقاء رجل مجهول عصفت به أحوال العيش لينتهي مهجوراً في قرية جبلية صغيرة. سيخاطب غيفارا قائلاً «سأموت وأنا على علم أن تضحيتي تنبع فقط من المرونة التي ترمز إلى حضارتنا الفاسدة المنهارة. كما أعلم – وهذا لن يغير مجرى التاريخ أو نظرتك لي – إنك ستموت وقبضتك مطبقة وفكك متوتر، صورة مصغرة للكره والنضال، لأنك لست رمزاً (مثالاً يفتقر إلى الحياة) بل عضواً أصيلاً في مجتمع سيدمّر روح قفير النحل ويتكلم عبر فمك ويحرّض أفعالك. أنت مفيد مثلي، لكنك لست مدركاً كم مفيد إسهامك في المجتمع الذي يضحّي بك». سيودّع الرجل من دون أن يغادره رنين كلماته، كما ستضعه هذه التميمة في مواجهة عاصفة مع ذاته لن تهدأ بعد ذلك «سأهاجم المتاريس أو الخنادق، وسأحمل سلاحي الملطّخ بالدم، سأذبح أي عدو يقع بين يدي. أرى نفسي قرباناً في الثورة الحقيقية. أشعر أن أنفي يتسع ليستنشق الرائحة اللاذعة للبارود والدم وموت العدو. أعدُّ نفسي للمعركة لتكون فضاء مقدّساً».
من جهته، أنجز شريك غيفارا في الرحلة ألبيرتو غرانادو كتاباً بعنوان «مع تشي عبر أميركا الجنوبية» يصف وقائع الرحلة بمرآة أخرى، وقد أرفقه بمجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية التي تضيئ الدروب التي قطعاها سوية، والمصير المفجع الذي انتهى إليه أيقونة القرن العشرين.