الرحلة في محطات سرد التكوين

 

النقد الأدبى قول على قول للذائقة الجمالية والمتعة الفكرية، وهو مصاحبة للحرف “الشكل” والمعني “المضمون” معًا، وبصدد رواية “محطات” للكاتبة د. قدرية سعيد، نجد هذه الثنائية عبر مفهوم “سرد التكوين”، وذكر د. سيد محمد قطب هذا المفهوم أنه اللون من السرد الذى يتناول فترة التشكل يبدأ من نهاية فترة الطفولة المتأخرة ويصل إلى فترة الشباب، وبتعبيره “زمن الصداقة والحب والأحلام .. أي سحر كامن فى هذه الفترة يدفع كتاب السرد لتناولها”، أما المفكر سامى خشبة فيطلق عليه في معجم مصطلحاته الثقافية “سرد النمو”، وأرى أنه “السرد التربوي”، وهو لون مقدر فى الكتابة السردية له هدف تربوى يرمى إلى إيضاح سبل تحقيق التنمية المتدرجة والشاملة والمتوازنة والمنتجة فى الشخصية الإنسانية في فترة التأسيس المهمة، لكن هذا يتم عبر السحر الفني أو “الخبرات اللغوية” بتعبير الرواية.

تتشكل رواية “محطات” من عدد 29 كتلة سردية مرقمة، كان المقطع رقم (1) التأسيس أو التمهيد الروائي الذى جاء سريعًا، حيث يحيط القارئ بعد مطالعة بالمعلومات الأساسية في الرواية، وأزمة بطلها الرئيس “عاطف فهمي أبو حجر” ووالديه نتيجة رسوبه المتكرر، رغم أنه الابن الوحيد لوالديه أتى بعد شوق لإنقطاع الإنجاب لسنوات طويلة، ثم أتى المقطعان الثاني والثالث بتفاصيل أكثر، ثم في المقطع الرابع العودة لنقطة البداية السردية، أو لحظة الحدث الروائي الآني، ثم التصعيد طبقًا لزمن خطي مرتب.

جاءت ضربة البداية السردية بلحظة توتر حيث يعود الأب مأزومًا بعد أن وجد اسم نجله الوحيد في كشف الرسوب: “بوجه يختلط فيه الحزن بالغضب”. وهذا النوع من البدايات يعني الدخول مباشرة لغمار القصة، وهو الأمر الذي يفضله القارئ بعيدًا عن الوصف في الاستهلال أو البدء بقصص خلفية لجذور الأزمة في الرواية، لكنها يمكن أن تأتي في مرحلة تالية بعد تحقيق جذب القارئ من خلال الفعل في الاستهلال.

قدمت الرواية السمات الجسدية والنفسية لأبطالها، منها سمات الأم “كريمة” التي يعتصر قلبها الألم لرسوب ابنها المستديم، وسمات الأب الذي لا يحب التغيير ومهنته في الأثاث، ثم “عاطف” الذي يتمتع بموهبة الرسم، ثم يتنتقل الحكي بالغوص نحو مغامرته العاطفية الرومانسية في هذه المرحلة الخطرة من العمر، حيث تنتقل كاميرا السرد لغرفته وتشير لعقدته في الدراسة حيث يفتقد التركيز وخياله الذي يشرد به حول عدد من النساء اللاتي يغرم بهن، وأحلام المراهقة، لكن دون إدانة أو نقض أو تحقير، بل بتعبير متعاطف من السارد قد يكشف للقارئ في مباراة السرد بينه وبين الرواية القادم الروائي، تقول الرواية: “روح الصبي الشغوف بالجمال الرقيق” (ص 6) هنا يرنو أفق توقع القارئ أن الرواية متفهمة لأحاسيس هذه الفترة العمرية للشباب مقدرة لها.

حققت الرواية أيضا “التماثل السردي” في أكثر من موضع، ويعني حركة خارجية ملموسة تناظر وتقارب حركة نفسية بالسرد، نموذجًا “عاطف” عندما أوشك أن يتجر بالمخدرات بسبب وسوسة صديق السوء، وعندما سافر ليقوم بتوصيل البضاعة الشؤم لترويجها بالساحل الشمالي، توقف في استراحة الطريق، ليناقش نفسه: “عوامل الضغط على ضميره الإنساني، أمه كريمة التي ماتت من الحزن عليه، دموع والده وانكسار المارد” (ص 45) فقرر التخلص من المحتويات المشينة والإفلات من المصير المؤسف، هذا المشهد يماثل بعد قليل عندما كان يسبح في البحر: “غاص مسرعًا فى منطقة الدوامات، شعر بالخطر يجرفه إلى الداخل” (ص 47) لكن تدخل المنقذ بالشاطئ لينقذه من الغرق.

موقف آخر للتماثل السردي، حين كانت “منيرة” عمة “عاطف” تحكي قصتها الفرعية في الرواية حول قرارها بالإنفصال عن زوجها لخيانته لها، يناظر: “كدت أن أحطم المرآة ولكن جرس الباب قد أنقذها من التهشم” (ص 25) والمرآة تعبير عن الذات والإنطواء داخلها، وكادت مشاهر الغضب أن تهشم ذاتها، لكن صوت الإنذار أو “داعي المسئولية” بتعبير الرواية، وفكرة الطب بالعمل أنقذ الذات من التهشم.

وكان اختيار العنوان “محطات” موفقًا، حيث كان رسم مصائر الشخصيات عبر محطات الحياة يمر عبر لقاء وفراق لا يهدأ، وقد يحدث الفراق بالموت كما تحقق أكثر من مرة بالرواية، وقد يكون بالمرض كما حدث لعاطف عندما فارق المرشدة السياحية “ناهد أبوالوفا” لمرضها الشديد، وكما فارق “عاطف” والديه في الأجازات الصيفية بالسفر لعمته بالاسكندرية أثناء العطلات الصيفية، ثم فارق والده نهائيا بعد زواج والده من “وردة”، وقد يكون الفراق بسبب الخيانة كما حدث لمنيرة عندما فارقت زوجها الخائن، وقد يكون الفراق على مستوى معنوي، كما فر “عاطف” من صديق السوء وسلوك السوء، وكما فارق أيضًا نساء خياله، كما يمكن أن يتحقق اللقاء، وقد يحدث اللقاء بعد فراق كما حدث مع د. زينب زيدان عندما فارقت الحبيب “حمدى” ثم عادت لتلتقيه، وتكمل معه رحلة الحياة. وهكذا نجد حركة سفر دائمة بين محطات الحياة.

وتدرس الرواية ظاهرة خفوت الإحتواء الأسري للشباب، وتقدم رؤيتها حول أزمة افتقاد الدفء الأسري والهوة بين الأجيال: “يشعر عاطف دائمًا ببرودة المنزل، ليس هناك أي نوع من الحوار سوى الإطمئنان على دروسه وما ينقصه لتعزيز فرص نجاحه المتباطئ” (ص 11) وأعتقد أنها متفشية مثل الوباء في المجتمع العربى. أيضًا هيمنة أجهزة المحمول على أوقات وعقول الشباب: “هذا العالم الإلكتروني يبعد بمسافات ثقافية كبيرة عن حياة الوالدين” (ص 11) لذلك عندما وجد “عاطف” أسلوبا تربويًا مغايرًا من عمته ومنحه الثقة تفجرت طاقاته الكامنة: “استضافت العمة ابن أخيها بشكل طيب وهادئ، لم تحدثه في أمر رسوبه بالدراسة، حاولت أن تشعره بذاته، وأن يكون له دور معها فى إدارة الورشة” (ص 16).

كما حضر الجانب العلمي، أو المعارف الاجتماعية عبر حديث الإخصائي الإجتماعي “منصور” لوالد عاطف موضحًا له الداء والدواء، حول ضرورة الإندماج والتدخل في حياة الأبناء في مرحلة مراهقتهم والحاجة إلى صداقتهم، والتعرف على ميولهم واكتشافها، وضرورة تحقيق “الأمن العاطفي” لهم، وأنه في حال غياب هذه الرعاية، مع التوبيخ المستمر والمعايرة والمقارنات بل والإيذاء المعنوي والبدني، تحدث وجوه كثر للإنحراف كالتدخين والمخدرات والسقوط في بئر الشهوات الآسن … إلى آخره.

كما قدمت الرواية فكرة العلاج بالعمل، وهي فكرة مهمة طبقتها شخصيات الرواية حيث هزيمة عواصف الأحزان وإخفاقات الحياة بمزيد من الإنجاز، والإنغمار في العمل المفيد طوقًا للنجاة من دواهٍ نفسية ساحقة ماحقة، وهذا الجانب كثيف بالرواية، ونقدم نموجًا منه، حول تقدير قيمة العمل في تربية “أبو حجر” لابنه “فهمى”: “الجدية في العمل منذ الصغر هي سر النجاح حتى لو كان الزبون يطلب تصنيع أصغر قطعة خشبية، لا بد من احترامه والإلتزام بمواعيد التسليم والجودة …” (ص 34). ثم حضور مفوم توريث القيم عبر المجايلة بالخاتمة بعدما قام “عاطف” بفتح الورشة وبدء الإنتاج: “لقد بدأها أبوحجر، حافظ عليها فهمي أبو حجر، وبداية عصر جديد مع عاطف فهمي أبوحجر” (ص 87).

كما قدمت الرواية انتقادًا لسلوك الفنان عبر طقس إبداعي كالتدخين، وأنه يجلب لحظات الإلهام ويحفزها، حيث في أكثر من موقف يدخن “عاطف” كي: “يبدأ في تسجيل خطوطه على ورقة بيضاء صغيرة ينقلها إلى لوحته المنشودة” (ص 19) “بعد أسبوع، لم يعرف عدد علب السجائر التي دخنها، لإتمام اللوحة لتلك السيدة على أجمل ما يكون الفن” (ص 21) هنا يجب التوقف لأن التدخين هو الباب الرسمي لدخول مملكة المخدرات الخبيثة كما أوشك أن يسقط “عاطف” لولا عاصمة من قيم تمسك بها وأنقذته من الهاوية.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى