تحبس مدينة جنين أنفاسها، خشية تدهور الأوضاع الأمنية الداخلية، والوصول إلى مرحلة لا تُحمد عُقباها من الاقتتال الداخلي، وذلك جرّاء أداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، واستمرارها في حملة الاعتقالات والملاحقات لمقاومين ونشطاء سياسيين. وارتفعت المخاوف، خلال الساعات الماضية، من انزلاق الأوضاع في المدينة إلى هذا السيناريو، عقب اندلاع اشتباكات بين عناصر الأمن ومسلّحين، على خلفية استمرار اعتقال خالد عرعراوي (منذ 16 تموز) رغم المُناشدات التي أُطلقت في الأيام الفائتة من أجل إطلاق سراحه. وعرعراوي هو أسير مُحرَّر، وعمّ الشهيد مجدي عرعراوي الذي ارتقى في خلال تصدّيه للعدوان على مخيم جنين قبل شهر تقريباً، ووالد الجريح كمال عرعراوي. وقد اعتُقل بسبب مشاركته في طرد وفد «مركزية فتح» الذي كان يزور مخيم جنين، بعد انتهاء العدوان الأخير عليه.
وبدأت الاشتباكات بإطلاق صليات كثيفة من الرصاص بعد منتصف ليل الثلاثاء – الأربعاء تجاه مقرّ المقاطعة في المدينة، ليردّ عناصر الأمن بإطلاق النار وقنابل الغاز المُسيّل للدموع، وفق ما رصدته كاميرات المواطنين، التي سجّلت أيضاً انتشاراً كثيفاً للأجهزة الأمنية، وتحديداً في منطقة مستشفى جنين الحكومي القريب من المخيم. وترافق ذلك مع إطلاق مكبّرات الصوت في المساجد مُطالبات بالإفراج عن العرعراوي والمعتقلين لدى السلطة. وخلال الشهر الجاري، شنّت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات طالت الكثير من المقاومين وتحديداً في قرى ريف جنين، مثل يعبد وجبع، وفق ما تفيد به بيانات «سرايا القدس – كتيبة جنين»، وهو السبب الذي دفع حركة «الجهاد الإسلامي» إلى رفض المشاركة في اجتماع الأمناء العامين للفصائل في مصر.
ومنذ انتهاء العدوان الأخير على المخيم، تشهد محافظة جنين استنفاراً أمنياً فلسطينياً؛ إذ نشرت السلطة، بإيعازٍ من رئيسها محمود عباس، قواتها في المدينة ومخيمها وقراها، وسط تقارير عن غضب «أبو مازن» من أداء أجهزته، وتزايُد شعبية مجموعات المقاومة هناك. وفي الواقع، فإن قوات الاحتلال توقّفت، منذ قرابة شهر، عن تنفيذ اقتحامات لجنين ومخيمها – باستثناء اقتحام واحد فقط -، وهو ما يفُسَّر على أنه محاولة إسرائيلية لمنح السلطة وأجهزتها الفرصة للقيام بدورها في السيطرة على الأوضاع. وشكّلت جنين، ولا تزال، كحالة نضالية متقدّمة في الضفة، ونموذج متطوّر في المقاومة، تحدّياً كبيراً لإسرائيل التي فشلت أكثر من مرّة في إنهاء تلك الحالة، بل وآتت عملياتها نتائج عكسية، بتمكّن المقاومة من نقل خبراتها إلى مناطق أخرى، وفق ما يظهره أداء المقاومين في مخيم نور شمس من تطوّر في الأداء، وتحديداً لناحية تصنيع العبوات الناسفة.
وتُحرج حالة المقاومة في جنين، السلطة الفلسطينية كذلك، التي تفقد بريقها وشعبيّتها أمام المدّ الشعبي المؤيّد للمقاومة. كما تُبرز هذه الحالة للرأي العام عجز السلطة وقلّة حيلتها وفشل خياراتها السياسية، وتجلّي الغضب من استنكافها عن حماية الناس من بطش الاحتلال، بل واستعدادها أخيراً للانجرار إلى ما تريده إسرائيل من اقتتال فلسطيني داخلي، عبر الزجّ بأجهزتها في مواجهات مباشرة مع المقاومين. وفي محاولة لاستباق هكذا سيناريوات وتلافيها، طالبت مجموعات المقاومة، عبر بيانات متكرّرة حديثاً، بضرورة الإفراج عن المقاومين والمعتقلين، فيما نظّم المئات من أهالي مخيم جنين ومناطق متفرّقة في الضفة، مسيرة مندّدة بـ«الاعتقالات السياسية»، دعت إليها «كتيبة جنين» في الـ17 من تموز.
مع ذلك، فإن ما جرى فجر الأربعاء يحمل في طيّاته مؤشّرات خطيرة، تنذر بوقوع الأسوأ في حال لم يجرِ تطويقه. وتتقدّم تلك المؤشرات حقيقة أن الأجهزة الأمنية اشتبكت بشكل عنيف مع المسلّحين، وردّت على إطلاق النار بمشاركة معظم أجهزتها، خلافاً لما كان يجري سابقاً من عدم الردّ في حالات إطلاق النار على مقرّ المقاطعة أو الأجهزة الأمنية. أمّا المؤشّر الثاني الأبرز، فهو وصول حالة رفض الاعتقالات والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين إلى حدود إبداء الاستعداد لـ«أخذ الحق باليد».
ومن هنا، أذاعت مكبّرات صوت المساجد في مخيم جنين، بياناً اتّهم السلطة بتمرير مخطط العقبة وشرم الشيخ بالتضييق على المقاومين وكلّ من ينصرهم، معلناً «(أنّنا) صبرنا كثيراً على اعتقال الأب خالد عرعراوي الذي لا نعلم حتى اليوم ما هو مصيره ولا موقعه ولا مكانه ولا أيّ معلومة عن صحّته، علماً أن ابنه ما زال يرقد في المشفى، وقد فقد النظر إثر إصابته». وأضاف البيان «(أننا) نطالب السلطة بأن تتركنا وشأننا، لا نطلب منهم أن يدافعوا عنا ولا أن يقاتلوا بالنيابة عنا، كلّ ما نطلبه منهم وقف الاعتقالات السياسية». وهدّد البيان بأنه «ابتداءً من الآن، ستكون هناك خطوات تصعيدية، ولن نترك العم خالد وحده»، متابعاً (أنّنا) نوجّه رسالة إلى كلّ قيادات السلطة: لا نريد أن نراكم داخل مخيمنا، لأنه لا يجوز تطبيق دور المهرّج في مكاتبكم، ترسمون الخطط ضدّنا وأمامنا تطبّقون دور الأب الحنون».
وبالتزامن مع الاشتباكات في جنين، شهدت مدن نابلس وأريحا وطولكرم مواجهات عنيفة بين المقاومين وقوات الاحتلال التي نفّذت مداهمات واسعة هناك. إذ اقتحمت قوات كبيرة من جيش العدو المنطقة الشرقية لمدينة نابلس لتأمين الحماية للمستوطنين الذين اقتحموا قبر يوسف، فيما شهد مخيم عقبة جبر معارك شديدة عقب محاصرة منزل واعتقال شبان عدّة جرى لاحقاً الإفراج عن معظمهم. وعلى الرغم من الاستنفار الأمني الذي تعيشه قوات الاحتلال في الضفة الغربية، إلّا أن ذلك لم يَحُل دون توجيه المقاومة ضربات قوية إلى المستوطنين في الساعات القليلة الماضية، كان أبرزها تنفيذ الشاب مهند المزارعة، عصر الثلاثاء، عملية إطلاق نار في مستوطنة «معاليه أدوميم» قرب القدس المحتلّة، نجمت عنها إصابة 6 مستوطنين، بينهم اثنان بجروح خطيرة؛ وعملية إطلاق نار أخرى على مركبة للمستوطنين قرب حاجز الحمرا في الأغوار ظهر الأربعاء، أدّت أيضاً إلى إصابة مستوطنة بجروح بسيطة، في مكان ليس ببعيد عن عملية مقتل 3 مستوطنات في هجوم فدائي قبل أشهر.
وعلى الرغم من التفاوت في مواقيت العمليات الفدائية، إلّا أنه من الواضح أنها لم تَعُد مقتصرة على بقعة جغرافية بعينها، وأن منفّذيها يثبتون قدرة متزايدة على تجاوز الاستنفار الإسرائيلي، والاقتراب من الحواجز العسكرية، ومن ثمّ الانسحاب بسلام. وجاءت عمليّتا «معاليه أدوميم» والأغوار في سياق تصاعد استهداف المستوطنات والمستوطنين في الضفة، على غرار ما سبقهما من استهدافٍ لمستوطنة «عيلي» الذي أدّى إلى مقتل 4 مستوطنين، وآخر لمستوطنة «كدوميم». كما جاءت لتؤكدا فشل الاحتلال في وقف هجمات المقاومة، على الرغم من عمليات الاقتحام والاعتقال والقتل اليومية، وهو ما يدلّ على خروق إضافية في جدار الردع، وتآكل جدوى العقوبات الجماعية التي تُفرَض على عائلات منفّذي العمليات عبر هدم منازلهم وسحب تصاريح العمل منهم، والأهمّ عجز أجهزة العدو الاستخبارية عن الرصد المسبق لهذه العمليات ومنع وقوعها رغم حديث الاحتلال دائماً عن وجود إنذارات ساخنة وبالعشرات.
صحيفة الأخبار اللبنانية