السوريون في العيد والحرب والسياسة: نصف يوم القيامة!
في أول يوم من أيام عيد الأضحى المبارك، يتحرك السوريون بحيوية واضحة رغم الحرب والفاقة والموت والدمار والحصار، يمكنك أن ترى جاهزية كاملة في الأحياء الشعبية لبيع وشراء السكاكر والحلويات ولذبح الأضاحي وتقديم لحومها للفقراء الذين يزدادون بسرعة وبنسب تكاد تكون مفاجئة ومخيفة ، ويمكنك أن ترى طوابير تنتظر حصص اللحم .
هذا شيء عادي في الأحياء الشعبية، ورغم ذلك هناك من تأتيه حصته إلى البيت سرا، فالفقراء الذين يخفون فقرهم وعوزهم أكثر بكثير ممن يظهرونه ، وقال أحد أعضاء الجمعيات الخيرية : ذهبت لتفقد بعض المهجّرين، فإذا الجميع يتناولون طعامهم من الخبز والماء فقط، دون أن يشكون الحاجة !
لم يتغير شيء في العادات الأساسية للسوريين، رغم تسويق أخلاق جديدة أقحمتها الحرب في حياتهم وأوجدت أثرياء جددأ وفقراء جددأ في الوقت نفسه، العادات تراها أحيانا تحت حريق القنابل وتناثر الانفجارات..!
تتجول في الأسواق، فإذا هي تتوزع بين المارة والمتسوقين : ثمة مارة يمضون كل إلى طريقه لايلتفت لا إلى البضائع ولا إلى الوجوه يذهب إلى غايته ويردد كما رددت أم كلثوم ذات يوم : لاتقل شئنا فإن الحظ شاء . وثمة مارة يبحثون عن أشياء جديدة ليشترونها، وأحيانا تلاحظ ازدحاما مفاجئا فتظن أنه فرن لبيع الخبز، فإذا هو متجر لبيع البالة من الملابس والأحذية، وحتى الملابس الداخلية.
الحزن على الوجوه، فالضحايا أكثر من أن تعد، وعلى جدران بعض المدن علقت صور ولافتات وأوراق نعوة كثيرة وكأن نصف القيامة قد قامت .. نعم نصف القيامة قد قامت : هناك من يأتي إلى بيته يدور حول ركامه .. يشم من تحته رائحة أشياء احتفظ بها ذات يوم، ثم يذهب إلى مكان الإيواء ليعود من جديد بعد أيام وينظر إلى ركام بيته، وهناك من لم ير بيته منذ اندلاع الحرب، وهناك من مات تحت ركام بيته وانتهى من كل مايجري.
هناك أمهات يذهبن إلى المقابر، في العيد يرتبن تراب القبور يزرعن عروق الريحان ويثرثرن مع الموتى، ثم يقرأن الفاتحة ، فتذهب حروف الفاتحة في فضاء واسع واسع رطبته دموع الحزن بين الناس ..
قامت نصف القيامة، لأن هناك امرأة فقدت جميع أولادها وزوجها . لم تبق إلا ابنتها..سألتها ابنتها : ماما لماذا بقيت أنا وأنت؟ فأجابت الأم : هذا قدر الله عندما تقوم القيامة كاملة سوف لن يبقى أحدا .. الجميع أمام الحق وأنا وأنت أيضا ياماما!
جعلتني هذه الحادثة أفكر بروايتي الجديدة ((نصف يوم القيامة))!
الحق .. تلك المفردة يبحث عنها الجميع، والله وحده يعرف من هو صاحب الحق. لكن الألسن تلهج بحثا عنه ، وبعد سنوات طويلة من الحرب تسمع عبارة أن لعنة الله على كل من اشتغل على الفتنة.
عشية العيد ، كان بعض المنتفعين ينصبون الأراجيح في واحدة من ساحات المدينة. تسألهم : هل ثمة عيد فعلا :
يضحكون ، ويردد واحد منهم : ياعم.. هناك من ولد في أول الحرب، ومن حقه مرجوحة !
ويختم وجهة نظره غاضبا بعبارة جارحة : العمى !
العالم كله يهتم بتفاصيل مايجري في جنيف حول سورية إلا السوريين، لاشيء واضح في الإعلام السوري، والغريب أن هناك من السوريين من لايعرف باسم جنيف أصلا ، ولايميز بين صورة لافروف ولا صورة كيري . وبعض الأطفال البي سفن والكلاشن ويعرفون هيفاء وهبي بالسليقة ، ويعرفون كاظم الساهر ونانسي عجرم ولين الحايك التي فازت ببرنامج ذي فويس كيدز.
السياسة تغيب عن الحياة ، يحل محلها شيء جديد ، يمكن أن تكشفه وأنت تتحرك في المناسبات كالعيد الذي نحن فيه، فالناس لايفتحون موضوع المواقف (( مع أو ضد)) ، ولايتذكر أحد منهم اسم حزب من الأحزاب ((جديد أو قديم )).. يحل مكان السياسة ابتكار جديد : رمادي اللون . غائب النظرات. فيه نوع من النكد ونوع من اللامبالاه .. وفي وقت الاصطفاف يبتسم الجميع بسخرية ، ويقول واحد يعرف السياسة جيدا : يالهؤلاء الناس . بعد نصف مليون قتيل . لاموقف سياسيا لهم!
السياسيون أصناف : نوع ذو تاريخ سياسي قديم ، وقد انقسم إلى ثلاثة فرق : الفرقة الأولى خارج البلاد وربما تقرأ في سيرتهم الذاتي تناقضا فجا فيما بينهم ونوعا من الصراع وربما هناك دم، وهذا النوع متحالف تحت مسميات جديدة ، ولايريد بشار الأسد في مستقبل سورية، ومنهم من ليس لديه إجابة عن مستقبل سورية نفسه . النوع الثاني : ويسمون الموالاة ، وهؤلاء تجمعهم العبارة فيما هم يتعايشون وفقا لظروف الحرب، والجزء الأهم فيهم هو في الجيش ، والجيش جمعه يوسف العظمة لمقاومة فرنسا، وخرّبه حسني الزعيم بانقلابه الأول وأكرم الحوراني بمكره الثاني، ثم تنامى الجيش على عقيدة تقول : الدفاع عن الوطن وتحرير فلسطين .. في الأزمة: ارتاحت إسرائيل منه .. ارتاحت تماما فقد انشغل حتى أذنيه بالمخطط والمؤامرة ومحاربة داعش وماعش وراعش والنصرة ..والجيش الحر الذي خرج منه!!.
النوع الثالث يسمونه : الله يفرج ! وهو يمثل أربعة أرباع من تبقى في سورية .. ينتظر . يصمت . يصبر . يجوع . يبتزونه . يسرقونه .. ويستمر .. وهؤلاء أصحاب موقف سياسي .. مهمون جدا .. ويترقبهم الجميع !
في أول يوم من عيد الأضحى .. تتعالى التكبيرات في سورية : الله أكبر.. الله أكبر .. الله أكبر .. العبارة تتشابه بين العيد والسياسة والقتل والذبح والحج والصلاة .. إنه نصف يوم القيامة !