السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [6]
لا يزال الحديث هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». وفي حديثه عن اتفاق 17 أيّار وتصويت المجلس النيابي عليه (فقط زاهر الخطيب ونجاح واكيم صوّتا ضد الاتفاق) يزهو الجميّل بأكثريّة الـ 64 صوتاً في مصلحة الاتفاق. لكنه لا يذكر أن المجلس النيابي هذا كان قد مرَّ على انتخابه أكثر من 11 سنة وأنه كان يفتقر إلى المشروعيّة الشعبيّة، خصوصاً بعد اندلاع حرب أثبتت تحوّلاً جذريّاً في أهواء الناس في الكثير من المناطق، ونبذاً للكثير من الزعماء والنوّاب الممَثّلين في المجلس. وينسى الجميّل أن يذكر طبيعة الحكم البوليسي الذي أرسى دعائمه (وبدعم أميركي وإسرائيلي). كانت أجواء الاستبداد والظلم والتعسّف والقهر تسود في حكم الجميّل حتى انتفاضة ٦ شباط (المُباركة، لأنها أسقطت بالقوّة المسلّحة اتفاقيّة 17 أيّار، وأزالت كابوس حكم الجميّل البوليسي عن المنطقة الغربيّة). (من طرائف مواقع التواصل هذه الأيّام أن الإعلاميّين اللبنانيّين العاملين في إعلام الطغاة في الخليج، والمقيمين في دبي، يعيّرون حكم ميشال عون ويصفونه بالبوليسي: لكن حكم ميشال عون على بشاعته وشناعته وفساده وسوء إدارته لا يشبه أبداً أجواء الديكتاتوريّة الفاشيّة التي سادت في أوّل سنتيْن من حكم الجميّل—طبعاً، الطرفة بالنسبة إلى الإعلاميّين اللبنانيّين العاملين في دبيّ أنهم يلهجون بحمد النظام الذي يفرض عقوبة ١٥ سنة سجناً للتغريدة — أو إعادة التغريدة— إذا تعارضت مع مشيئة الحاكم).
لم يُكتب بعد تاريخ تلك الفترة القاتمة التي سادت في بيروت الغربيّة بعد تنصيب أمين الجميّل في رئاسة الجمهوريّة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي (وبمباركة من «الإسلام التقليدي»، وخصوصاً من قبل صائب سلام وكامل الأسعد وكل الساسة المسلمين الذين ماشوا النظام السعودي، بالإضافة إلى المباركة القويّة التي حظي بها النظام من قبل عبد الأمير قبلان ومحمد مهدي شمس الدين حتى في مرحلة التحضير لاتفاق 17 أيّار ومرحلة التوقيع وما تلاها. والمباركة الدينيّة للأخيريْن كانت خير مُساند لقمع المقاومين من قبل النظام الكتائبي). وقد عانى أكثر من عانى في تلك المرحلة سكّان بيروت الغربيّة والمخيّمات الفلسطينيّة والضاحية الجنوبيّة. وكان الجيش اللبناني يعمل كأداة ميليشيَويّة خالصة تنسّق يومها مع جيش الاحتلال الإسرائيلي لمطاردة المقاومين اللبنانيّين والفلسطينيّين في كل مناطق عمل الجيش الخاضع للجميّل. وتعرّض الكثير من اللبنانيّين والفلسطينيّين في تلك الفترة إلى التعذيب والخطف والقتل. وعندما نتحدّث عن عمليّات الخطف والمخطوفين في سنوات الحرب ننسى تلك المرحلة وننسى أيضاً تسليم الجيش اللبناني لـ«مطلوبين» من قبل جيش الاحتلال وأعوانه، وهناك منهم لم يعد إلى أهله بعد. أذكر في تلك المرحلة من أواخر عام ١٩٨٢، كيف أنني وقفتُ على شرفة مكتب رشيد الخالدي في الجامعة الأميركيّة في بيروت ونظرنا إلى الأسفل حيث كانت دبّابات الجيش اللبناني تجول في حرم الجامعة للترهيب ولمنع أي تحرّك طالبيّ ضد الجميّل أو ضد الاحتلال الإسرائيلي. أذكر أنني التفتُّ إلى رشيد وعلّقتُ بأن المشهد هذا يذكّر بحكم الجنرالات في تركيا. وكان عناصر القوّات اللبنانيّة يرافقون عناصر الجيش في حملات المداهمة والتفتيش التي كانوا يقومون بها في بيروت الغربيّة والضاحية الجنوبيّة وحتماً بإيعاز من جيش الاحتلال الإسرائيلي. وارتكب عناصر من حكم الجميّل عمليّات اغتصاب واعتداءات جنسيّة ضد نسوة في منطقة الطريق الجديدة، كما أذكر. وقد عملَ صائب سلام مع جهاز النظام السعودي في لبنان على تلطيف سمعة الجميّل عبر إطلاق تسمية «محمد أمين الجميّل» عليه وذلك لإيهام الناس أنه بعيد عن الطائفيّة وأنه مُحبّ للمسلمين. ولم يتمّ الحديث عن أجواء القهر إلا في خطبة ألقاها المفتي حسن خالد، الذي هو الآخر تعامل برفق وترحيب مع عهد الجميّل في أوّله، وقد استنكر فيها «التجاوزات» و«الممارسات» التي تُرتكَب في منطقة بيروت الغربيّة. كان المفتي خالد أوّل من جاهر بالاعتراض يومها من بين أفراد المؤسّسة التقليديّة. كل هذا لم يتحدّث عنه الجميّل في كتابه ولم يشرْ إليه بكلمة. لكن هل هناك تأريخ للحرب الأهليّة؟ هناك كتب تعاملت مع مرحلة حرب السنتيْن لكن بعد أن طالت الحرب لم يعد هناك جهد بكتابة تاريخ شامل للحرب (سأترك ذلك لسنوات تقاعدي إلا إذا أصابني الطاعونُ، المرضُ الملعونُ).
لكنّ الجميّل يريد الشيء وعكسه كعادته. هو يزهو باتفاق 17 أيار وبتأييد نوّاب مجلس 1972 له، وهو كان شديد الفخر بالاتفاق في أيّامه لكنه يزعم في الكتاب (ص. 135) أنه عبّر لراعيه ريغان عن مخاوفه ووصف الاتفاق بـ «الوثيقة المسمّمة». يا أمين: أنا كنتُ أعيش في لبنان في تلك الفترة وكانت كل بروباغاندا حكمك الفاشي في حينه منصبّة على الترويج الصفيق للاتفاقيّة وعلى قمع كل الأصوات المعارضة لها. لم ننسَ، يا أمين، ولم ينسَ منَ عاصر فترة حكمك الظالمة والطائفيّة والفئويّة. «وثيقة مسمّمة» وتعرضها على المجلس النيابي للتصويت عليها؟ وفي رواية الجميّل عن الاتفاقيّة يتساءل ببراءة شديدة «عن الأسباب التي تدفع الدولة العبريّة إلى ممارسة هذا الضغط علينا» (ص. 135). ماذا كنتَ تتوقّع، يا أمين؟ هل أنتَ كنتَ تتفاوض (ومن موقع قوّة أم إذلال؟) مع دولة مسالمة لا تريد لجيران فلسطين إلا الخير، أم مع دولة عدوانيّة تأسّست على الإرهاب والاحتلال؟ ويريد الجميّل في تأريخ جديد ومتجدّد لعهده المشؤوم أن يزعم أن الغضبة الشعبيّة المسلّحة في انتفاضة 6 شباط لم تكن هي المسؤولة عن سقوط اتفاق ١٧ أيّار بل هو ينسب الفضل في ذلك إلى إسرائيل نفسها، قائلاً: «إسرائيل أسقطته من خلال الرسالة الجانبيّة». هذه مثل زعم دوري شمعون أن إسرائيل لم تُهزم في حرب تمّوز بل إنها لم تكن تريد أن تستعمل الكثير من القوّة، أو زعم فريق ١٤ آذار أن إسرائيل لم تنسحب قسراً بسبب المقاومة من جنوب لبنان في عام 2000 بل إنها انسحبت طوعاً وذلك حباً وحناناً بالشعب الجنوبي. ويعتمد الجميّل كثيراً في تحليلاته على ما يقوله له الدبلوماسيّون الأميركيّون. هم قالوا له مثلاً في تموز 1983 إن «الهم الأكبر لوليد جنبلاط هو الانفصال عن السوريّين» (ص. 142). لكنّ جنبلاط، بصرف النظر عما كان يقوله للأميركيّين في السرّ، حافظَ على ولائه وطاعته لحاكم دمشق، في عهد حافظ الأسد وحتى في عهد ابنه وإن شابت العلاقة توتّرات في عهد الابن (حول مواضيع كبيرة، من نوع حصّة في وزارة أو نقل دركي من مخفر إلى آخر لأن القضايا الكبرى لم تكن يوماً تشغل البيت الجنبلاطي، على ما كان فؤاد شهاب يقول). والمفارقة أن جنبلاط عاد إلى دمشق وفي مخالفة لما قاله للأميركيّين، عزّزَ تحالفه مع النظام السوري وأعلن الإدارة المدنيّة في مناطق نفوذه الطائفي. فما كان من العدوّ الإسرائيلي إلا أن أرسلَ إلى معاون ممثل ريغان في لبنان يُبلغه استعداد إسرائيل للوساطة بين الجميّل وبين جنبلاط. وقد ظهر في الكتاب كم أن الخيار الإسرائيلي في لبنان، الممثّل ببشير الجميّل وأخيه من بعده، كان مدعوماً مباشرة من قبل النظام السعودي، الممثل بالملك فهد وسعود الفيصل. واعترض الملك فهد لموفد أمين الجميّل على مطلب انسحاب إسرائيل بلا قيد أو شرط من لبنان (ص. 143). وينقلُ عن الملك فهد قوله: «إذا لم يبقَ الرئيس الجميّل على رأس الدولة، ينتهي لبنان». الحقيقة أن احتضار لبنان لم يتحقّق كما تحقّق في عهد أمين الجميّل هذا.
ويمضي الجميّل في العادة التي درجها في الكتاب، في حشر استشهادات في غير سياقها في متن الكتاب لإضفاء طابع عميق على فكره الانعزالي. تراه يتحدّث عن حادث سير بسيط تعرّض له وإذ به يستشهد بباولو كويلو: «عموماً، يدفعنا الموت إلى أن نصبح أكثر حرصاً على الحياة» (ص. 147). أي موت، يا أمين. هذا حادث سير عرضي كما توصفه. ما بدّها هالقد. ومغامرات الجميّل في الرئاسة تستمر، وشكاواه من خذلان الجميع نحوه يستمر. كان يمكن اختيار عنوان أفضل للكتاب: «كتاب الشكاوى والخذلان». يقول: «أين أصبحت كل تطمينات الرئيس ريغان؟». ماذا تقصد؟ ماذا تقصد بأين أصبحت، يا أمين؟ تريده أن يختارك على حليفه إسرائيل؟ أم كنتَ تريده أن يُخضع كل الشعب اللبناني من أجل عينيْك؟ والشعب اللبناني برمّته بات معارضاً لك وأنت تعترف أنك كنت حتى مكروهاً في مناطق النفوذ الكتائبي-القوّاتي. ثم، عندما تجد أن كل آمالك في الإدارة الأميركيّة تبخّرت، تكون الإدارة مُلامة أم الذي وضع كل ثقته فيها هو المُلام؟ أنتَ الذي عوّلتَ كل التعويل على تطمينات أميركيّة. هل كنتَ تظن أن ريغان يحب العرب وهو سيفعل المستحيل من أجل إجبار إسرائيل على الانسحاب من لبنان لتعزيز دعائم حكمك الفاشي؟ لكن المسألة لم تكن فقط خذلاناً لك، وأميركا لها تاريخ عريق (مستمر) في دعم وتسليم الطغاة، وهي فعلت ذلك معك لكنها فقدت ثقتها بك كحليف في غضون سنتيْن. كانوا يطلقون عليك صفة «أمين ترافولتا» في واشنطن عندما وصلتَها في عام 1983. وأذكر مؤتمرك الصحافي في عام 1983 عندما هدّدتَ بقصف دمشق من نادي الصحافة في واشنطن. وقد سألتُ واحداً من مستشاريك أخيراً عن ذلك التصريح. أكدَّ لي أن التهديد كان عفويّاً منك، وأنه لم يكن مكتوباً لك في خطبة، لكن دبّت الحماسة فيك بعد أن التقيت المسؤولين الأميركيّين. وأذكر حالة الذهول التي اعترت الصحافة الأميركيّة وحتى الجالية اللبنانيّة من ذلك التصريح، وكان لسان حال كثيرين يومها: على ماذا يعتمد الجميّل؟ دائماً يعوّل أمين على الآخرين لخوض معاركه، كما عوّل أخوه من قبله على إسرائيل لخوض معاركه. وكان مشروع الأخويْن (مع الأخذ في الحسبان باختلاف طفيف في الرؤية) يعتمد أوّل ما يعتمد ليس فقط على تركيع وتطويع طوائف معادية بحالها وبالحديد والنار، ولا على كسر شوكة أحزاب معادية أيضاً، بل على الحفاظ على النظام السياسي اللبناني كما هو، وبقوّة سلاح خارجيّة. لكن إيمان الغرب بهذا النظام كان قد زال بمجرّد اندلاع الحرب الأهليّة. ظنَّ الجميّل أنه يمكن عبر جيوش الأطلسي وإسرائيل العودة القهقرى بالتاريخ اللبناني. والجميّل، في الرئاسة وخارجها، يضيق صدره بأي نقد يُوجَّه له، من خصومه ومن حلفائه. ها هو يعتبر نقد القوات له في حكمه على أنه مبنيّ على «إشاعات مغرضة مبرمجة وخبيثة تضخّ مسؤوليّة الكارثة على عاتق رئيس الجمهوريّة» (ص. 147). لم تتغيّر، يا أمين. لا تزال عاجزاً عن تحمّل المسؤوليّة ولا تزال تلوم الغير على ما وقع من مصائب ونكبات في عهدك. أذكر في لقائي معك (رويتُ ذلك في الحلقة الأولى من السلسلة) في قصر بعبدا في منتصف الثمانينيّات كيف كنتُ كلّما وجهتُ لك نقداً على سياساتك وعهدك تردّ عليَّ بالقول: أنت متأثّر بالإعلام الأميركي ضدّي، أو كنتَ تلتفت إلى والدي وتقول له: ابنك متأثّر بالإعلام الأميركي ضدّي. عبثاً تشرح لأمين أنني مثل غيري عاديناه وعادينا حزبه وبرامجه قبل نشوب الحرب الأهليّة (وحتماً قبل مجيئي إلى أميركا).
ونعلم من الكتاب أن الجميّل، بعد هزيمة القوات اللبنانيّة في الجبل وبعد ارتكاب مجازر طائفيّة هناك، قرّرَ الاستقالة من الرئاسة لكنه لم يفاتح الشعب اللبناني بقراره. لا، قرّرَ الرئيس «المقاوِم» (حسب وصفه هو) والسيادي مفاتحة المبعوث الأميركي في لبنان بقراره. هل أنتَ رئيس منتدب من أميركا، يا أمين، أم أنتَ مُنصَّب من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي حاكماً على الشعب اللبناني؟ لكنّ البيت الأبيض تزعزع من قرار أمين (أو بتهديد أمين، لأنه لم ينفّذ قراره) وأرسلَ إليه ريغان رسالة يقوّي عصبه ويشدّ من عزيمته ويدعوه للبقاء في منصبه. يا أمين: أنت تنتمي إلى حزب تمرّسَ في علك كل مصطلحات السيادة والوطنيّة وها أنتَ تعترف بقلمك (أو قلم مساعد لك) بأن موضوع استقالتك أو عدمه كان موضوعاً انحصر بحثه بينك وبين رئيس دولة أجنبيّة، وعندما طالبك بالبقاء في المنصب قبلتَ على الفور. لا، ويقول أمين رسالة ريغان له كانت مشجّعة لكنها كانت «خالية من أي التزام فعلي» (ص. 148). كان أمين لا يقبل بأقل من نشر قوات الأطلسي في كل الأراضي اللبنانيّة للبقاء في الحكم.
ومن طرائف وبدائع الكتاب أن الجميّل يحلّل السياسة الأميركيّة على طريقة أن هذا المبعوث كان جيدّاً والآخر كان سيئاً، بمقدار ما توافقت نظرة المبعوث مع الجميّل. ويفاضل الجميّل بين روبرت ماكفارلين وبين دونالد رامسفلد (الذي سيعود ليصبح وزير الدفاع في عهد جورج دبليو بوش) ويميل بقوّة إلى رامسفلد، الذي سرعان ما تحوّل إلى صديقه (كل زعيم لبناني يتحوّل إلى صديق للمسؤول الأميركي بمجرّد أن يلتقي به مرّة أو مرّتيْن، هاكم وليد جنبلاط تحوّل إلى صديق حميم لجو بادين بعد لقاءَيْن). استاء الجميّل كثيراً من ماكفارلين لأنه نصحه بالتوصّل إلى تفاهم، أو التقليل من طموحاته. يقول الجميّل إن ماكفارلين كان مغروراً، وإنه كان هاوياً، كأننا نتحدث عن لاعب لكرة المضرب. وانزعج الجميّل لأن ماكفارلين تحدّث عن مخاوف أمنيّة سوريّة «مشروعة»، ربما لظن الجميّل أن لإسرائيل وحدها حق التعبير عن مخاوف أمنيّة مشروعة في لبنان، وخصوصاً أن كل أجهزة حكمه عملت على صدّ أي تحرّك لأي عمل مقاومة ضد إسرائيل، من قبل يساريّين أو إسلاميّين. لكن الجميّل ينتقم من ماكفارلين ويذكّر بفضيحة إيران-كونترا كأنها من صنع ماكفارلين وحده، لا بل إن الجميّل يعترض عليه لأنه «ألحق ضرراً جسيماً بسمعة رونالد ريغان» (الجميّل يصرّ على تهجئة اسم ريغان «ريغن»). ويتشفّى الجميّل من مصير ماكفارلين ويذكّر أنه فشل حتى في الانتحار (ص. 154، لكنه، يا أمين، لم يحاول الانتحار حزناً على سقوط سوق الغرب). ويذكر الجميّل في معرض الحديث، هكذا عرضاً، أنه استمع في جامعة هارفرد «التي التحقتُ بها بعد انتهاء ولايتي» (ص. 152) إلى محاضرة للخبير الإسرائيلي في شؤون سوريا، موشي ماعوز (يصرّ الجميّل، خطأً، أن اسمه موعاز، على وزن بوتاغاز). ويعتد الجميّل برأي ماعوز في شأن لبنان، وهذا الخبير في كتابه عن حافظ الأسد يقول إن تقي الدين الصلح كان رئيس جهوريّة لبنان—قسْ على ذلك. ويقول أمين إنه «التحق» بجامعة هارفرد، كأنه كان تلميذاً فيها أو أستاذاً، فيما لم يكن لا هذا ولا ذاك. ويكرّر للقارئ بأنه كان يُشرك شفيق الوزّان، رئيس الوزراء الصورة — أضعف رئيس وزراء في تاريخ الجمهوريّة، بقدر ما كان ميشال سليمان أضعف رئيس جمهوريّة — في «كل المداولات»، مع أن الوزان في حينه نفى لي كلام الجميّل في هذا الصدد.
وعناد الجميّل يبلغ الحدّ الذي يرفض فيه أن يعترف بمشروعيّة، أو حتى لبنانيّة خصومه، عندما يقول عن جنبلاط إنه كان «قائد الميليشيات الموالية لدمشق». هذا التوصيف هو مثل التوصيف الحالي لفريق الجميّل لحزب الله، وأنه ليس لبنانيّاً بل هو إيرانيّ. ولو أن الدعم الخارجي ينفي صفة اللبنانيّة عن الشخصيّات والأحزاب اللبنانيّة، لما بقي على أرض لبنان أحد. ألم تكن هناك أسباب حقيقيّة داخليّة لمعارضة لبنانيّة لحكمك؟ لكن هذا ديدن حزب الكتائب، الذي كان في مسار الحرب الأهليّة ينفي أن هناك في لبنان أحداً يختلف معه في الرأي وفي القتل، وأن كل معارضيه ليسوا إلا أدوات بيد اليسار الدولي والاتحاد السوفياتي ومنظمة التحرير. من يمكن بعقله أن يعارض حزب الكتائب؟ ويستذكر الجميّل تصريحاً لوليد جنبلاط (الذي بات يعظ بأدب الحوار على تويتر) قال فيه: «عندما نصبح في قصر الرئاسة، لن ندع الصليب الأحمر ينقل جثّة الجميّل حتى» (ص. 154). ومضحك أن الجميّل في كتابه (الذي أرجّح أنه مكتوب أصلاً بالفرنسيّة وليس بالعربيّة، وأنه مُوجّه إلى القارئ الغربي أكثر من القارئ العربي—وإن كنت أرجّح أنْ لا القارئ العربي ولا القارئ الغربي سيقرآن هذا الكتاب المملّ) ينسى أنه لم يعد رئيساً للجمهوريّة فيقول عن جبهة فريقه في سوق الغرب إنها كانت «المعقل الأخير للحريّة». أيّة حريّة، يا أمين، فيما كانت زنازين حكمك مليئة بأناس تعرّضوا للتعذيب فقط لأنهم عارضوا سياساتك وعارضوا أو قاوموا الاحتلال الإسرائيلي للبنان؟ لكن الراعي الأميركي أثنى على مقاومة جيش الجميّل «الباسلة»، وهذا كان كافياً لرفع المعنويّات في حينه. وأذكر أن صحافيّاً أميركيّاً كان يصف الوضع المنهار لميشال عون في جبهة سوق الغرب فقال إنه كان يضع سيجارتيْن في فمه بدلاً من سيجارة واحدة. ومع أن الضابط الأميركي المُلحق بسفارة أميركا في لبنان خدع واشنطن (التي أمرته حسب الجميّل بعدم التورّط في الحرب الجارية) وأمرَ البوارج بقصفها لـ «القوات المعادية للحكومة في منطقة سوق الغرب»، فإن ذلك لم يكن كافياً للجميّل. كان يريد المزيد من القصف والتدمير والقتل ضد أبناء وطنه. هذه هي مقاومة أمين الجميّل التي لا يزال مزهواً بها في هذا الكتاب.
(يتبع)
صحيفة الأخبار اللبنانية