السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [7]
لا يزال الحديثُ هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة، التي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». ولعلَّ سامي الجميّل يطلع بسيرة ذاتيّة له بعد انتهاء هذه الحلقات، وليتحدّث فيها عن نضالاته ضدّ سلاح «هزبولا». عندها، قد أنتهي من سيرة الأب لأردّ على سيرة الابن – إنّه حزب المؤسّسات. يشيد أمين الجميّل بشجاعته الشخصيّة عندما رفض نصائح بالانتقال من قصر بعبدا إلى مكان آمن بعد اشتداد القصف في معارك سوق الغرب، لا بل ارتدى خوذة القتال وملابس الميدان وانضمَّ إلى مقاتلي الجيش الانعزالي الفئوي الطائفي في «جبهة» سوق الغرب (لا يجد رئيس لبنان السابق غضاضة في التحدّث بافتخار عن جبهة عسكريّة فتحها ضدّ مواطنين لبنانيّين آخرين لأنّهم رفضوا جبروت حكمه المفروض من التحالف الأميركي – الإسرائيلي – السعودي. الدور السعودي كان خفياً، لكنّنا بتنا نعلم الكثير عنه، وأفصح الجميّل عنه في كتابه). ويذكرُ بعضنا من تلك الحقبة صورة الجميّل في خوذة القتال وملابس الميدان، وكان ذلك يذكّر بمشاهد من فيلم إسماعيل ياسين، «إسماعيل ياسين في الجيش»، أو اسكتشات الظريف، «بني هيل». وعندما يتحدّث الجميّل عن حكمه الجائر وعن أفعاله، يُسبغ عليها دائماً صفة «المقاومة»، فيقول عن دكّ مناطق آهلة بالسكان في الضاحية والجبل: «بدأت مقاومتي تؤتي ثمارها. عاودت الدبلوماسيّة تحرّكها» (ص. 155)، أي إنّ الجميّل يعترف بأنّ دكّ المناطق السكنيّة للبنانيّين (أي هم لا يقعون في خانة «الإغراب» بحسب اللغة العنصريّة لحزب «الكتائب») كان أحياناً بهدف جذب الاهتمام الدبلوماسي إليه، بعدما ضاقت دول الغرب، وحتى الراعي في واشنطن، ذرعاً به وبحكمه.
ويشير الجميّل إلى تفجير مقرّ المارينز، ويقول عن مهمّة قوات الاحتلال المتعدّدة الجنسيّة التالي: «طاول هذا الاعتداء الشنيع جنوداً جاؤوا إلى بلدنا لإحلال السلام بناءً على طلبنا وطلب العرب أنفسهم، في وقت كان الفلسطينيّون مهدّدين بالأسوأ من جرّاء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت» (ص. 155). عدد الأكاذيب في الجملة الواحدة يسجّل سبقاً. 1) كلمة شنيع لم يستعملها الجميّل لوصف كلّ إرهاب إسرائيل في لبنان، لكن ذلك ليس بمستغرب خصوصاً عندما يكون إرهاب إسرائيل هو الذي أوصله، كما أوصل شقيقه من قبله، إلى سدّة الحكم (الفاقد للشرعيّة). 2) أي إحلال للسلام هو هذا؟ متى قامت القوّات الأميركيّة في بلادنا بإحلال السلام؟ السلام في لبنان؟ ألم تسهم قوات المارينز مع قوات المظليّين الفرنسيّة في تزخيم وتسعير وتيرة الحرب الضروس بين اللبنانيّين؟ وما يسمّيه الجميّل «السلام» لم يكن إلّا فرض نظام حكمه بالقوّة على صدور الشعب اللبناني، بالرغم من اعتبار أكثر من نصف الشعب لحكمه بأنه باطل (كان للجميّل تأييد من فئة كبيرة من الشعب في مطلع عهده، لكنّ هذا التأييد سرعان ما تبخّرَ بسبب الجرائم والتجاوزات التي ارتكبها عناصر من جيشه الفئوي ومن القوات اللبنانيّة). ثم إذا كانت مهمّة المارينز هي إحلال السلام، فلماذا لم يتحقّق السلام واستعرت الحرب بوجوده؟ 3) يقول إنّ المارينز أتوا بناءً «على طلب العرب أنفسهم». أي عرب؟ الملك فهد، تقصد. 4) يربط الجميّل وجود المارينز بالتهديد الذي تعرّض له الفلسطينيّون في لبنان. أيّ نفاق هو هذا؟ وهل يكترث حزب «الكتائب» لما يجري للشعب الفلسطيني؟ وهل كان موضوع حماية الشعب الفلسطيني في لبنان في حينه مطروحاً إلّا من زاوية خطر الإرهاب الإسرائيلي والكتائبي ضدّ المخيّمات؟ ومَن الذي ارتكب في حينه المجازر ضدّ المخيّمات إلا أنتم؟ (طبعاً، ارتكبت حركة «أمل» في ما بعد، ومع حلفاء للنظام السوري – وبرعاية النظام – مجازر ضدّ المخيّمات في «حرب المخيّمات» في الثمانينيّات والتي طمسها النسيان). أنتم، يا أمين، كنتم الخطر الداهم ضدّ المخيّمات مع راعيكم في تل أبيب. وهل يمكن أن يثق الشعب الفلسطيني بالقوّات الأميركيّة لحمايته؟ وهل ارتكبت مجزرة صبرا وشاتيلا إلّا بسبب ضمانة أعطاها المبعوث الأميركي، فيليب حبيب، وبالنيابة عن الرئيس الأميركي، لياسر عرفات (طبعاً، أعطاها بصورة غير مباشرة، لأنّ الاتصال المباشر كان ممنوعاً في حينه)؟ طبعاً، يتحمّل عرفات المسؤوليّة التاريخيّة عن الوثوق بضمانة أميركيّة لحماية الشعب الفلسطيني في لبنان.
لكنّ الجميّل لا يبحث في مشروعيّة وجود المارينز في لبنان. لم تأتِ القوّات الأميركيّة بطلب من حكومة لبنان الرسميّة. وليس هناك من أيّ مسار شرعي بعد الاجتياح الإسرائيلي، وهذا ما أكّده حبيب الشرتوني في أوّل ظهور إعلامي له بعد اعتقاله. كانت هناك في لبنان حربٌ أهليّة وحشيّة، فقامت قوّات الاحتلال بغزو لبنان من أجل ترجيح كفّة حليفهم القوات ضد خصومهم، وهذا ما حصل. والقول إنّ إلياس سركيس هو الذي طلب تدخّل القوات المتعدّدة الجنسيّة لا يسبغ مشروعيّة على القرار، خصوصاً أنّنا بتنا نعلم اليوم أنّ سركيس في آخر سنتين من حكمه لم يكن إلّا ذراعاً للمؤامرة الإسرائيليّة في لبنان. والتدخّل الأميركي كان بغرض دعم طرف ضدّ آخر في الحرب الأهليّة. وهذا ما توافق عليه في ما بعد أعضاء الكونغرس الأميركي عندما ضغطوا على رونالد ريغان لسحب القوّات الأميركيّة من لبنان. أذكر نقاشات الكونغرس في حينه، وكان الجمهوريّون والديموقراطيّون على حدّ سواء يحاججون أنّ لا سبب لوجود قوّات أميركيّة في لبنان، لأنّ وجودها هو لدعم طرف ضد آخر في حرب أهليّة. وكان الجميّل يحاجج أنّ الوجود (بالأحرى الاحتلال) الأميركي في لبنان كان من أجل «دعم العالم الحرّ»، أو «محاربة الإرهاب الفلسطيني»، إلخ.
لكنّ الحديث عن تفجير مقرّ المارينز يكشف عن جانب إنساني رقيق في شخصيّة أمين الجميّل. وهذا الجانب لم يكن معلوماً من اللبنانيّين من قبل. هاكم وهاكنّ أمين يقول: «لن تغيب عن بالي صورة ذلك الجندي الأميركي العالق داخل حطام من الباطون المنهار» (ص. 155). أوّاه، كم أنّ مشاعر أمين تكون رقيقة في ما يتعلّق بحياة الجنود الأميركيّين. لكن يا أمين: هل غابت عن بالك صور قتل النساء والأطفال في المجازر التي شاركتَ فيها في تل الزعتر أو في غيرها؟ هل غاب عن بالك، يا أمين، صور قتل النساء والأطفال في صبرا وشاتيلا؟ بين كلّ مشاهد القتل والتعذيب التي قامت بها عصابات حزبك في لبنان، لم يبقَ منها صورة واحدة؟ أم أنّ كتابك موجَّه للجمهور الغربي (كأنّ الجمهور الغربي يعرف من تكون)، ولذلك تريد أن تؤكّد لهم أنّك تعتنق بحقّ عقيدتهم في أنّ حياة الرجل الأبيض أعزّ عندك من حياة بني أهلك؟
وعن مؤتمر جنيف بشأن لبنان في تشرين الأوّل/ أكتوبر 1983، يستغرب الجميّل كيف أنّ هناك رفضاً لشرعيّة ترؤسه للجلسات بحكم أنّه طرف من أطراف الحرب الأهليّة. ويستشهد بموقف سليمان فرنجيّة لصالحه، مع أنّ مواقف فرنجيّة في المؤتمر اتّسمت بالكثير من العناد الطائفي والسياسي ورفض التغيير في بنية النظام الذي قاد إلى الحرب الأهليّة. ويصف أمين، هكذا عرضاً، نبيه بري ووليد جنبلاط بأنّهما كانا مرعيّيْن من سوريا (ص. 156). وهو يشرح ذلك للجمهور الغربي. صحيح أنّ النظام السوري كان يرعى الزعيمَيْن المذكورَيْن، لكن كيف يمكن نفي تمثيليّة بري وجنبلاط في حينه (أو حتى الآن، وهذه الديمومة في التمثيل السياسي مأساة في حدّ ذاتها). لكن، أليس من الدقّة القول إنّك كنتَ أنتَ مرعيّاً من الحكومة الأميركيّة آنذاك، وإلى حدّ بما (في مرحلة ما قبل إلغاء اتفاقيّة 17 أيّار) من حكومة العدو أيضاً؟
ويطير الجميّل إلى واشنطن، في أواخر عام 1983، ليلتقي بالمسؤولين الأميركيّين بناءً على طلبه، كما يقول (ص. 158). ويُصدَم الجميّل في تلك الزيارة التي أذكرها، لأنّه يكتشف أنّ الحكومة الأميركيّة ليست في وارد الاستغراق في الحرب الأهليّة من أجل تدعيم حكمه وفرض اتفاقيّة 17 أيّار. لم يكن الموقف الأميركي من منطلق إنساني حنون، بل من منطلق تقدير خسائر الجنود الأميركيّين مقابل فوائد دعم حكم رجل لم يعد يحظى بدعم ميليشيات بيروت الشرقيّة نفسها. وبوقاحة، يستشهد الجميّل من مدوّنته الشخصيّة بموقف لجيمس أبو رزق الذي كان معارضاً بشدّة لدعم الجميّل ولكلّ حلفاء إسرائيل في لبنان. جيمس أبو رزق خدمَ لبنان، خصوصاً بعد تركه ولاية واحدة في مجلس الشيوخ، أكثر من كلّ السفراء اللبنانيّين الذين تعاقبوا في واشنطن. كان أبو رزق صلباً في مواجهة اللوبي الإسرائيلي، ودحض على مدى عقود طويلة الدعاية الصهيونيّة عن لبنان وفلسطين. ألهذا أزعجتك تصريحات جيمس أبو رزق؟ (لم تكن مواقف أبو رزق صلبة ضدّ إسرائيل عندما كان في مجلس الشيوخ، لكن مواقفه باتت جذريّة بعدما أسّس «اللجنة العربيّة – الأميركيّة لمكافحة التمييز»، وكانت أقوى المنظّمات العربيّة وأكثرها فعاليّة، لكنّها تعرّضت للتشتّت والتدمير من قبل لوبيات طغاة الخليج، الذين عمدوا بعد اجتياح صدّام إلى ابتياع أو تدمير كلّ المنظّمات العربيّة في واشنطن، ولم يبقَ منها من ينطق باسم الجمهور العربي. كانت اللبنانيّة الوطنيّة، هالة سلام مقصود، آخر زعيمة لمنظّمة عربيّة فاعلة في واشنطن. المنظّمات العربيّة الباقية ليست أكثر من لوبيات لدعم تسليح طغاة الخليج ولدعم تطبيعهم مع دولة العدو، ولهذا اتجه الإنفاق الخليجي نحو مراكز الأبحاث غير العربيّة).
يذرف الجميّل الدمع مدراراً على اتفاقيّة 17 أيّار، ويقول في لهجة حزينة تكاد تفطر القلب: «في الواقع، ما عاد اتفاق 17 أيّار في ذاته يهمّ أحداً، بل باتَ عنصراً مهماً للمساومات الإقليميّة» (ص. 158). تخلّوا عن اتفاقك، يا أمين. لم يعد هناك من يكترث للإنجاز الوحيد في عهدك – هو إنجاز بمقياسك وكم أنفقتَ، وأنفقَ راعيك الخارجي، على التطبيل له وعلى فرض طاعته على الشعب اللبناني. لعلّ فترة اتفاقيّة 17 أيّار كانت أكثر فترات الحكم البوليسي في التاريخ اللبناني الحديث – باستثناء حقبة فؤاد شهاب بعد الانقلاب القومي. وبعد عودة الجميّل من آخر لقاء مع ريغان، كتب في سجلّ تدوينه الشخصي ما يلي: «أتاحت لي مداولاتي التأكّد أكثر فأكثر من أنّ الإدارة الأميركيّة لم تعد تثق بأحد في المنطقة باستثناء الدولة العبريّة» (ص. 159). هذه تحتاج إلى مداولات، يا أمين؟ أما كان ممكناً لكَ معرفة ذلك قبل ذلك اليوم؟ ثمّ، جامعة هارفرد هي «مربط خيلك» (كما تصفها في الكتاب) وكان يمكن لك الاستماع إلى محاضرات فيها، غير محاضرة الإسرائيلي موشي ماعوز (تسمّيه موعاز، لسبب ما)، عن مواضيع السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط. وماذا كنتَ تتوقّع؟ أن تولّيك واشنطن على حكومة العدوّ؟ هذا وهم يصيب كلّ أدوات أميركا في العالم العربي، من طغاة الخليج إلى صف 14 آذار الرجراج. وتحالف طغاة الخليج المُعلن مع دولة العدو لم يكن إلا نتاج «إدراك» متأخّر منهم أنّه مهما أطاعوا وأُذلّوا فإنّ دولة العدو تبقى هي المحظيّة الأولى.
ويفضح الكتاب ما كنّا نعرفه عن تأييد محمد مهدي شمس الدين لحكم الجميّل، ويعرض في الكتاب لصورة فوتوغرافيّة (ص. 170) عن رسالة خطيّة كان شمس الدين قد أرسلها له في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1982، ولا يذكر فيها احتلال إسرائيل للبنان (يذكر شمس الدين فيها «تحرير الأرض» فقط). بدلاً من ذلك، يطلب شمس الدين من الجميّل حصَصاً أفضل للشيعة في الإدارة العامّة. وشمس الدين (بحسب رواية نبيه برّي في كتاب نبيل هيثم، «أسكن هذا الكتاب»، وقد أكّدها لي الأول عندما سألته عنه) رفضَ منح فتوى للانتفاضة على حكم أمين الجميّل، حتى في 6 شباط/ فبراير 1984.
ومن أخطر ما في الكتاب، صورة عن نص محضر (بالإنكليزيّة) عن اجتماع بين الجميّل وريغان في تموّز/ يوليو 1983، وفي النص الأميركي تجد فارقاً بين الحقيقة وبين السرديّة في كتاب الجميّل. وبكل صفاقة، يشكر الجميّل ريغان بالنيابة عن الشعب اللبناني – كأنّ الشعب اللبناني انتخب الجميّل رئيساً، أو كأنّ الشعب اللبناني اختار أن تغزو إسرائيل لبنان كي تنصّب الشقيقَيْن الجميّل. ويدلّل الجميّل، في حديثه، على وفاء لبنان لأميركا في حال اعتمدته كحليف. يقول الجميّل لريغان عن لبنان، في كلام قد يكون قد أطلق دمع الحاضرين في المآقي: «إنه حليف صغير لكن حسن النيّة». ويعرض الجميّل خدماته للرئيس الأميركي (بصفته زعيماً عربيّاً جماهيريّاً؟) في «الانضمام لجهودك لخدمة القيم والمبادئ التي تمثّلون». والأسوأ في ما ورد في هذا اللقاء في مرحلة 17 أيّار المقيتة، أنّ الجميل يقول لريغان: «إنّ الوضع (في لبنان) اليوم سيّئ. وهو ليس مختلفاً عن الوضع الذي وجدت إسرائيل نفسها فيه في حرب ١٩٧٣»، أي إنّ الجميّل يقول لرئيس الجمهوريّة الأميركي إنّ لبنان هو ضحيّة كما أنّ إسرائيل هي ضحيّة العرب. لهذه الدرجة اعتنق الجميّل – «المقاوِم»، إياكم نسيان عنوان الكتاب – الخطاب الإسرائيلي بحذافيره. كاد يضيف أنّ إسرائيل في عدوانها على لبنان هي ضحيّة أيضاً. وبسذاجة مفرطة، يطالب الجميّل ريغان في الاجتماع عينه بإنشاء جسر للمساعدات العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة، على غرار الجسر الجوي الذي أقامته حكومة نيكسون في عام 1973 لإنقاذ إسرائيل من الهزيمة (لكن السادات عاد وأنقذ إسرائيل من الهزيمة بسبب أدائه العسكري وتعطيله إمكانيّة النصر على العدوّ). غريب أنّ الجميّل لا يفقه أبسط مبادئ السياسة الأميركيّة الخارجيّة، بالرغم من أن جامعة هارفرد أصبحت «مربط خيله»، على حدّ قوله.
ويشرح الجميّل لريغان رؤيته للعلاقات الدوليّة (وكان ذلك قبل نشوء الصداقة بين الجميّل وجامعة هارفرد) فيقول له: «لا يمكن لنا (نون الجماعة، في كلام الجميّل هنا، تشير إلى العالم الحرّ الذي ضمَّ، في ما ضمّ، آنذاك، الجميّل وبينوشيه وجنرالات تركيا وطغاة الخليج وحكام الأقليّة البيضاء في جنوب أفريقيا وموبوتو) أن نسمح لسوريا بأن تصبح قوة عظمى وأن تصدّ المبادرة الأميركيّة». ولم يذكر الجميّل في نصّ محضر الحديث معلوماته عن حيازة سوريا للأسلحة النوويّة آنذاك، ممّا أهّلها لأن تصبح قوة عظمى. وعن الدول العربيّة، يقول الجميّل بثقة استمدّها في حينه من جيش الاحتلال الاسرائيلي (ومن مهرجان الزهور في بكفيا): «أما بالنسبة للدول العربية، فنحن نتعامل معهم. كلّهم يريدون العمل معنا لكننا لا نستطيع أن ندعهم يعملون بمعزل عنّا… إنّ الأسد يبتزّ الأنظمة العربيّة». ويبدو أنّ ريغان أصيب بالذهول من كلام الجميّل، خصوصاً في تحذيره عن بروز سوريا كدولة عظمى تنافس الدولة الأميركيّة والاتحاد السوفياتي. وسأله ريغان عن كيفيّة ابتزاز سوريا للأنظمة العربيّة، فقال ريغان: «ما هو الابتزاز السوري؟» فيجيبه أمين: «إنهم متكبّرون وتهديداتهم مباشرة. لقد هدّدوا مثلاً كامل الأسعد، رئيس مجلس النوّاب. لقد مرّرَ السيّد (عبد الحليم) خدّام التهديد عبر (إيلي) سالم». أي إنّ ريغان حاول أن يستفسر من الجميّل عن طبيعة ابتزاز النظام السوري للأنظمة العربيّة، فيقوم الجميّل بالحديث عن تهديد كامل الأسعد. هذا هو نسق حوارات أمين الجميّل في اجتماعات القمّة. ثم يشكو الجميّل لريغان حالَه (كما شكى بيار الجميل وكميل شمعون وضع ميليشياتهما وهما ينتحبان أمام زعماء العدوّ الإسرائيلي، كما وصف ذلك شارون في مذكّراته)، فيساوي بين نفسه وبين الشعب اللبناني، إذ يقول: «إن الشعب اللبناني يُعاقَب ومشلول، لأنّنا أصدقاؤكم. ويعده الجميّل ببناء دولة في حال توافر الدعم الأميركي، ويقول لريغان في وصف تلك الدولة: «حليف قوي للترويج لقيمكم» (ص. 191). ويضيف الجميّل: «الشعب اللبناني يثق بالرئيس ريغان (كان هذا الحديث بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، والتي تلت وعداً من ريغان للشعب الفلسطيني بأنه يتكفّل بحماية المدنيين الفلسطينيّين بعد خروج منظّمة التحرير من لبنان)، وهم يعلّقون كبرى الآمال على هذه الزيارة. وهم يتوقّعون قيامة لبنان». لا ندري إذا كان الجميّل بعد الإشارة إلى قيامة لبنان قد غنّى «راجع، راجع، يتعمّر، راجع لبنان» في نهاية حديثه، أو أنّه أنشدَ عن طائر الفينيق الشهير، من أجل التأثير الشديد على السامعين في المكتب البيضاوي. ويختم ريغان الحديث بالتذكير بضرورة خروج منظّمة التحرير من لبنان. إلى هذه الدرجة كان ريغان جاهلاً بالمواضيع التي يبحثها مع الذين كان يلتقي بهم. وقد فضح طريقته رئيس الوزراء الأسترالي السابق، بوب هوك، إذ روى في مذكّراته كيف أنّ ريغان لم يكن يستطيع أن يخرج عن النص الذي كانوا يكتبون عليه جملاً لتلاوتها على بطاقات قبل أن يدع الوزراء يتباحثون مع المسؤول الكبير في حضرته، وهو جالس. لم يكن ريغان يستطيع أن يركّز في موضوعات البحث، خصوصاً في السياسة الخارجيّة، فيما صاحبكم الجميّل يحدّثه عن تفاصيل السياسة اللبنانيّة وعن الأسعد والوزان وحزب النجادة، فيما ريغان كان تحت انطباع انه يتحدّث مع ضيفه عن خروج منظمة التحرير عن بيروت، بعد سنة من خروجها عن المدينة.
(يتبع)
صحيفة الأخبار اللبنانية