الشام تونس …”قطع” و”وصل “
أزعم أنّي أتقن الإنصات إلى وقع الأختام ـ بل وأشتمّها ـ عند الحواجز في الموانئ والمطارات ، وأميّز جيّداً بين دقّات و طرقات شرطة الجوازات التي قد تبدو في ظاهرها آليّة أو عشوائية …لكنّ وراءها عصا مايسترو شديد الإتقان ماهر البراعة وعبقريّ التوزيع .
الحقيقة أن لا شيئ يجمع بين أرتال هذه الطوابير غير ادّعاء أناقة الانتظار و غريزة القدوم والمغادرة .
لا رابط بين هؤلاء جميعاً وبين المدن التي تسكن جوازاتهم غير حبر الأختام …
لا حقيبة تشبه مثيلتها فوق الشريط الأفعواني المعدني المتحرّك وإن تشابهت الهدايا في عيون رجال الجمارك وذاكرة عربات نقل الأمتعة ………فهل الإنسان حيوان مسافر ..؟ّ
يعود موظفو النقاط الحدودية إلى بيوتهم كل مساء بأصابع معضّلة وأكتاف متشنّجة ولا يعلمون أنهم قد رسموا خلفهم مصائر الآلاف من المسافرين .
يأوي السائقون والمضيفون إلى فراش نومهم بشيئ من الصداع والأحلام الصغيرة وقد محوا ركّاب رحلة اليوم من دفاترهم ….بينما يتحدّث المسافرون عن لطفهم وابتساماتهم المهنيّة .
ثمّة ضربة ختم موصوفة للفرج والخلاص مثل حكم براءة تعلنه مطرقة العدالة وثمّة أخرى تشبه المؤبّد أو الإعدام …وثالثة تحسم أمراً كان مقضيّاً ورابعة تفتح أبواباً كانت مغلقة نحو النعيم أو الجحيم ………….إلى ما لا نهاية من الدراما الإنسانية المرسومة في كتيّب شخصي اسمه جواز السفر …كيف ينسى الطبل نقرات صاحبه…؟!
ثمّة مدن تطبعها أختام بحبر سريع الزوال، شاحب الملامح، هلامي الشكل واللون، ثمّة مدن عمّدها حبر يشبه الوشم ….وثمّة مدن يقرّرها حبر سريّ لا يفكّ لغزه إلاّ العارف بتركيبته وثمّة مدن ختمت على القلب وبحبر يسري في العروق ويفوح منه عطر أبدي .
لم أعد أذكر عدد الجوازات التي حملتها وحملت أختام مطارات كثيرة، لكنّي أستحضر ـ كما الحب الأوّل ـ أوّل دقّة ختم على جوازي في دمشق منذ ثلاثين عاماً وفي مثل هذا اليوم .
لم يطلب مني موظف الجوازات تأشيرة دخول ولم يقل لي لماذا أتيت وعند من ستنزل ؟...رغم غياب المهنيّة وضعف اللباقة المعهودة في مطارات العالم.
قلت لسائق التاكسي وبلكنة تونسية “إلى نص الشام ” ثمّ ـ وفي منتصف الطريق انتبهت إلى أني لا أعرف أي شخص ولا أملك أيّ عنوان في الشام .
اسمحوا لي الآن أن أستخدم عبارة “قطع” المعروفة في تقنية كتابة السيناريو للانتقال إلى زمن آخر ومكان آخر
………………….”قطع”…………………..
تونس، بعد ثلاثين عاماً، وبعد نقاش طويل مع موظف الجوازات التونسية، قلت لسائق التاكسي ـ وبلكنة شامية ـ إلى نص تونس ” وفي منتصف الطريق” انتبهت إلى أنّي فقدت غالبية الأهل والأصدقاء ولم أعد أملك أي عنوان واضح في تونس.