الشهرة المدمّرة
الهوس بالشهرة قديم قدم الإعجاب والهتاف، وهو الذي جعل (ايروسترات) يقدم على حرق المعبد اليوناني فيحرمنا -هذا الفتى الأهوج- من التمتّع بأجمل وأنفس رائعة معمارية في التاريخ القديم .
استجاب التاريخ لرغبته في الشهرة وحفظ الناس اسم (ايروسترات)- للأسف الشديد – حتى كادوا أن ينسوا أو يتناسوا اسم الفنّان المهندس الذي بنا ذاك المعبد من عرق الروح والعقل والساعد .
الهدم سهل ويبدو ممتعا مثل ألعاب “الآتاري”، هو كالنميمة والشتيمة والمعارضة في الأزمات، أمّا الإبداع فلا يقوى عليه إلاّ المبدعون، وهم فئة قليلة في كل زمان ومكان أمام تلك الفئة الكبيرة التي تجيد الضجيج والتشهير والإستقواء عليك بما ترفّعت عنه.
الفرق واضح وجليّ بين من يكرّم أعلى غرائزه التوّاقة إلى متعة التفوّق عبر حب الإتقان و ألق التفرّد وبين من يلبّي أدناها الآمرة بالسطو على متاع الآخرين ومن ثمّ شتمهم لإبعاد الشبهة…بين ضوء حرّ بلا ظلال وبين ثوب فوسفوريّ لا يلمع إلاّ تحت أنوار الآخرين.
ترى ما سرّ هذا الهوس بالنجوميّة وجلب الأنظار ؟!
يذكر التاريخ أنّ الإمبراطور الروماني (المصروع )(كاليغولا )كان قد بعث جنده سرّا إلى اليونان كي يأتوا له بجثّة التمثال الأعجوبة العملاق (ديوس) بعد أن يقطعوا رأسه ليثبّته على كتفيه. انكشف أمر الجند، ففرّوا في جنح الظلام عائدين إلى روما ومن حسن حظّهم أنّهم وجدوا (كاليغولا) قد مات ..مات مقتولا على يد أشدّ المقرّبين والمعجبين بفلسفته.
لعلّ هذه الحادثة تحاول الإجابة عن التساؤل الذي سبقها، فلقد عاش (كاليغولا) حياة مضطربة نتيجة طفولة قاسية وأحداث مفجعة أدّت به إلى السعي لامتلاك القمر كرغبة في نجوميّة مطلقة رست به عند شواطئ الجنون …ولكن، هل يصنع الحرمان كل هذا الهوس بالنجوميّة؟
قد تبدو المقاربة غريبة وشاذة بين نموذج في الفن والثقافة و آخر في الحرب والسياسة، أزعم أن لا فرق.. فلو امتلك أحد المزيّفين في الأدب والفنّ عصا السلطة لقصم بها ظهور من حكمهم قبل غيره..ألم يكن هتلر شبه رسّام ونيرون شبه عازف ..وحتّى في تاريخنا العربي، ألم يكن (يزيد بن عبدالملك) “رقيقاً ” في شعره وكذلك كان المأمون ـ المعتزلي وباعث دار الحكمة الشهيرة ـ عالماً رحب الصدر …مع من وافقه الرأي طبعا ؟!
اسمحوا لي بالهمس في أذن منتظري “غودو الشهرة “، من المشرئبّة أعناقهم والطامعين في العسل من أعشاش الدبابير : إن كنتم مستعجلين فسيروا بطء كما يقول المثل الروسي .. إنّ تلك النجوم التي تتلألأ في السماء قد ولدت وعاشت وانطفأت منذ ملايين السنين…أفلا تتعظون …أم أنّ على قلوبكم غشاوة وفي رؤوسكم السميكة أكثر من نقاب.