الصورة النمطية للشرق في المسرح الغربي
كشف إدوارد سعيد في نقده أن الغرب رسم صورة نمطية للشرق في مدوناته الأدبية والفكرية والتاريخية، تمثّل شرقه الذي تدبّره، بل حتى أنتجه، سياسيا واجتماعيا وعسكريا وعقائديا وعلميا وتخيليا في مرحلة ما بعد عصر التنوير، وليس شرق “الواقع” الحقيقي. أي أن الغرب استند إلى خطاب هو تمثيل (تصور) للحقيقة، وليس الحقيقة ذاتها، عبر اللغة والثقافة السائدة ومؤسساتها المهيمنة، وأشاع هذا التمثيل الزائف ورسّخه عالميا، فأضحى ذريعة لوصم الشرق بالتخلف والاستبداد والدونية، وسببا في رفضه وتسويغ كراهيته له، واستعماره وامتلاك السيطرة والهيمنة عليه، ومؤشرا على المركزية الغربية وتفوقها. وخلص سعيد إلى أن الاستشراق شكل من أشكال العصاب التوهمي، بارنويا ومعرفة ونمط من الإسقاط الغربي على الشرق، وإرادة السيطرة عليه، يختلف عن نمط المعرفة التاريخية العادية.
اشتملت قراءة سعيد للاستشراق على تفكيك نصوص أدبية وفكرية غربية مختلفة حول الشرق، لكن ما يعنيني في هذا المقال، الذي يركز على المسرح، هو النصوص المسرحية، فقد قرأ ببصيرة نقدية ثاقبة نموذجين من التراجيديا الإغريقية هما “الفرس” لأسخيلوس”، و”الباخوسيات” أو (عابدات باخوس) ليوربيديس، وتوصل إلى أن آسيا تتكلم في الأولى عبر الخيال الأوروبي وبفضله، هذا الخيال الذي يصور منتصرا على آسيا- هذا العالم “الآخر” العدائي عبر البحار، ولآسيا تُنسب مشاعر الخواء والضياع والكارثة مشاعر تبدو بعد ذلك باستمرار جزاء الشرق كلما تحدى الغرب. وثمة أيضا بكائية تندب كون الشرق في ماض ما مجيد أوفر حظا وأعظم أداء وفاعلية وكونه هو نفسه انتصر على أوروبا.
وفي مسرحية “الباخوسيات، التي قد تكون أكثر المسرحيات الآتيكية آسيوية، يصور يوربيديس “ديونيسس” تصويرا صريحا يربطه بأصوله الآسيوية، وبضروب التطرف التي تتسم بها الأسرار الشرقية، التي تحمل في طياتها تهديدا غريبا، فالملك “بنثيوس”، ملك طيبة يلقى حتفه على يد أمه “آغاف” ومعها زميلاتها من عابدات إله الخمر “باخوس”. وهكذا يُعاقب “بنثيوس” عقابا مريعا لأنه تحدى “ديونيسس” برفضه الاعتراف بقوته أو بألوهيته. وتنتهي المسرحية باعتراف عام بالقوة المرعبة للإله ذي السلوك الشاذ.
ولاحظ سعيد أن حدا فاصلا في هاتين المسرحيتين قد رُسم بين قارتين: أوروبا قوية فصيحة هي التي تفصح وتعبّر عن الشرق، وآسيا مهزومة نائية. وهذا الإفصاح أو التعبير ليس ميزة يتميز بها محرك الدمى، بل خالق حقيقي لديه القوة على أن يهبها الروح، وأن يجعلها تمثّل وتحرك وتشكّل ذلك المكان الذي يقع فيما وراء الحدود المألوفة، والتي لولاها لظل صامتا وخطرا.
كما رأى سعيد أن ثمة علاقة قياسية بين أوركسترا أسخيلوس التي تحتوي العالم الآسيوي، مثلما يتصوره المسرحي الإغريقي، وبين الإطار العلمي الذي يغلف دراسة المستشرق، الذي قد يجد في أصقاع آسيا المترامية السديمية، ما يثير تعاطفه أحيانا، لكنه دائما ما يخضع ذلك لفحص دقيق ينم عن إحساسه بالسيطرة عليه.
وعلى الرغم من اختلاف العديد من النقاد مع آراء إدوارد سعيد، فإن الرؤية المعرفية (الابستمولوجية)، التي وظفها في تفكيك مجموعة كبيرة من متون أدبية وفكرية قديمة وحديثة أخذت الشرق موضوعا لها، أثارت سجالات لم تنته إلى اليوم، وتبناها مفكرون ونقاد وباحثون عرب وغربيون وشرقيون في قراءة وتحليل أعمال أدبية وفنية غربية تنتمي إلى عصور مختلفة، بعضها منبهر ظاهريا بالتراث الأدبي والروحي الشرقي (الملاحم، والأساطير، والطقوس الدينية)، لكنه يسيء في العمق إلى هذا التراث، أو يسطحه ويفرغه من جوهره. وهنا يستوقفني كتابان حلّلا أعمالا مسرحية غربية، منها ما تحامل فيها منتجوها على الشرق، ومنها ما ألهب فيها سحر الشرق خيالهم، لكنهم كانوا أسرى لثقافتهم المتمركزة حول ذاتها، أو لأيديولوجبا مثقلة بالتفوق والتحيز.
الكتاب الأول للناقد المسرحي الهندي روستم بهاروشا، وهو بعنوان “المسرح والعالم: الأداء وفن السياسة الثقافية” الذي تصدى فيه لمغالطة كثيرا ما روج لها بعض نقاد المسرح الغربي، مفادها أن استثمار المسرحيين الغربيين للتراث الأدبي والروحي الشرقي في تجاربهم المسرحية يشكّل نوعا من التقاء الثقافات وتمازجها، أو أنه يهدف إلى جعلها ذات منحى موضوعي، في حين أن تفكيك تلك التجارب يكشف عن حقيقة جوهرية مفادها أن معظمها يعتمد أساليب تخفي نزعة مركزية غربية ومنظورا ثقافيا كولونياليا.
وقد ركز بهاروشا على أربعة من أبرز المسرحيين الغربيين هم الإنكليزي بيتر بروك، الفرنسي أنتونين آرتو، البولوني جيرزي غروتوفسكي، والأميركي ريتشارد ششنر، من خلال بعض أعمالهم المسرحية التي تقوم على نظام تمثيلات يعيد صوغ مرجعيات تراثية، ومعتقدات شرقية مقدسة بشيء من الاستخفاف المقنّع بادعاء الموضوعية، والحيادية أحيانا، على وفق افتراضات خارجية عنها، ورؤى إشكالية في جوهرها، ومواقف نمطية ثابتة ومشوّهة للحقائق تفصل بين التاريخ الشرقي والحضارة الشرقية.
أما الكتاب الثاني فقد حمل عنوان “خطاب الاستشراق في النص المسرحي” للباحث العراقي أمير هشام الحداد، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه. لكنه لم يقف على النصوص المسرحية الغربية التي تحاملت فقط على الشرق، وجسدت شخصيات مختلفة من تاريخه على أنها بربرية متعطشة للدماء غرائزية في طباعها بل تناول أيضا النصوص المسرحية، وغير المسرحية التي أنصفت الشرق من خلال تجسيدها للشخصية الشرقية على أنها مثال للفضيلة والخلق الرفيع والكرم. كما بحث الحداد في موضوع تأثر المسرح الغربي بالأساطير والملاحم الشرقية (السومرية والبابلية والمصرية)، ونسبه أعمال بعض أبطال هذه الأساطير والملاحم، مثل “جلجامش”، إلى أبطال أسطوريين في التراث الإغريقي والروماني، مثل “هرقل” و”أوديب”.
وبتأثير من إدوارد سعيد تطرق الحداد إلى مجموعة كبيرة من النصوص المسرحية التي خلّفها الكتّاب اليونانيون والرومان، وكتّاب القرون الوسطى، وعصر النهضة، والعصور الحديثة، منها مسرحيتا أسخيلوس “الفرس” و”الضارعات، مشيرا إلى أنه رسم فيهما صورة قبيحة لأبناء الشرق من خلال توكيده على غطرستهم ووحشيتهم ورغبتهم في التوسع لاحتلال العالم. وكذلك مسرحيتا يوربيديس “الباخوسيات” و”ميديا”، مستشهدا ببعض الرسوم التي وجدت في القرن السادس عشر، والتي تظهر “ميديا” امرأة تشبه المرأة الشرقية الشيطانة.
ومن مسرح عصر النهضة يضرب الحداد أمثلة بنصي شكسبير “عطيل” و”كليوباترا”، وبعض نصوص درايدن وملتون وتوماس كيد وكريستوفر مارلو وكورني وراسين، وآخرين، وهي نصوص تنطلق من رؤية مركزية متغطرسة تجاه الآخر الشرقي، تزيفه، وتنتقص من قدره بشتى النعوت الدونية، وتعلي بالمقابل من شأن الشخصية الغربية، وتتغزل، على نحو مضمر أو صريح، بعقلانيتها وحكمتها ودهائها وشجاعتها.
ميدل إيست أون لاين