الطرح الأميركي يسترضي السعودية «لفظياً» | الرياض – تل أبيب: عقبات على طريق التطبيع
لم تيأس الولايات المتحدة من محاولة استعادة السعودية إلى بيت الطاعة، وفق ما تُظهره جملة معطيات آخرها ما أُشيع عن نُضج نوع من الترتيبات التي يجري الحديث عنها منذ وقت طويل بين كلٍّ من المملكة والولايات المتحدة وإسرائيل. إلّا أن نظرة إلى ما تسرّب من تلك الترتيبات المفترضة، تُظهر أن المعروض ما زال يقلّ كثيراً عن أدنى ما يمكن أن يقبل به النظام السعودي
منذ أيام، تروّج وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية، لاتفاق تطبيع «قريب» بين السعودية وإسرائيل، يشمل ما سرّبه الإعلام الأميركي قبل أشهر عن شروط سعودية للقيام بذلك، أهمّها ثلاثة: مساعدة أميركية للرياض في امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية، والحصول على أسلحة أميركية متقدّمة، والتوصل إلى حلّ للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي على أساس «حل الدولتين». إلّا أنه حتى الآن، لا كلمة سعودية واحدة، لا بشكل رسمي أو غير رسمي، لا عن الاتفاق «القريب»، ولا عن الشروط المزعومة.
أكثر من ذلك، طوال السنة الماضية، «نعّمت» الوفود الأميركية الطريق إلى السعودية في رحلات أسبوعية تقريباً، شارك فيها مسؤولون كبار منهم وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، ومدير المخابرات المركزية، وليام بيرنز، ومستشار الأمن القومي، جايك سوليفان، الذي كان أكثر المتردّدين على المملكة مع منسّق شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، بريت ماكغورك، وكبير المستشارين لشؤون أمن الطاقة العالمي، عاموس هوكشتين. لكن على رغم هذا «الهجوم» الديبلوماسي الأميركي الكبير، إلّا أن المملكة لم تغيّر سياسة التفلّت من السطوة الأميركية، وبقيت على المسار نفسه في استعادة العلاقات مع إيران، والمفاوضات في اليمن، على رغم محاولات العرقلة هنا وهناك.
ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام للكاتب توماس فريدمان عن مضمون لقاء مع الرئيس الأميركي، جو بايدن، يُفيد بوجود مشروع أميركي للتطبيع، هو في جوهره يهدف إلى إعادة السعودية إلى الحظيرة الأميركية، وإنهاء حالة «التمرّد» التي بدأتها عقب وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، وانطلاق المحاولات الأميركية لعزل ولي العهد، محمد بن سلمان، والتي دفعته إلى الاقتراب من قوى عالمية أخرى، كالصين وروسيا، وأخيراً إيران. على أنّ الكاتب نفسه يقول إن مثل هذا الاتفاق الذي يجري الحديث عنه يحتاج إلى مفاوضات مضنية لإنجازه.
هذا من الجهة الأميركية والإسرائيلية، فماذا عن السعودية؟ يمكن إغداق الكثير من الأوصاف السيّئة على السعوديين، كالقول إنهم خبثاء أو متآمرون أو خلاف ذلك، لكنهم ليسوا أغبياء. وحين يتعلّق الأمر بعلاقاتهم بالأميركيين، فلديهم خبرة بهم أكثر من أيّ طرف آخر في العالم، باستثناء إسرائيل، لكثرة ما شاركوهم مؤامراتهم التي رأوا خلالها عن قرب كيف يتخلّى الأميركيون عن حلفائهم وينكثون بوعودهم لهم.
ملامح الاتفاق الذي يجري الترويج له، تتضّمن نصف تلبية، أو أقلّ، لـ«الشروط السعودية»، مثل أن يتمّ اتّخاذ إجراءات تضمن إبقاء إمكانية «حل الدولتين» قائمة – وليس التوصل إلى اتفاق على أساس هذا «الحلّ» -، وتقديم تكنولوجيا نووية سلمية جاهزة – وليس تمكين السعوديين أنفسهم من امتلاك مهارات تطوير تلك التكنولوجيا -. وهذا يعني إعطاء السعوديين مجرّد وعود فارغة لا يمكن صرفها، خاصة من إسرائيل التي تتنصّل من الاتفاقات الواضحة، فكيف بالمبهمة وحمّالة الأوجه؟ فما الضمانات التي يمكن أن تركن إليها السعودية بتنفيذ الاتفاقات التي يتمّ التوصل إليها؟ وهل يمكن أن تتحمّل المملكة تطبيعاً مع العدو، مقابل التأرجح على أحابيل مفاوضات لها أول وليس لها آخر؟
إحدى الميزات الرئيسة التي يتمتّع بها ابن سلمان هي أنه نال شرف القول لا للأميركيين في الكثير من طلباتهم، ولا سيما في ما يتعلق بالنفط، بعد عقود من سياسة الإذعان والالتحاق بهم. فهل يمكن له بعد ذلك، تسويق اتفاق انبطاحي من هذا النوع؟ وإذا كان أصل المطالبة السعودية بامتلاك تكنولوجيا نووية هو إقامة توازن مع إيران، فكيف سيكون موقف السعوديين في حال قبلوا بنقل هذه التكنولوجيا جاهزة إليهم، وتحت الرقابة المشدّدة والدائمة، ومن دون مهارات التطوير التي تمتلكها طهران، وبنسبة تخصيب عالية؟ وعلى افتراض أنه تمّ تجاوز تلك العقبات، فهل يمكن تمرير نقل أيّ نوع من أنواع التكنولوجيا النووية إلى دولة خرج منها 15 من بين 19 انتحارياً شاركوا في هجمات 11 أيلول، على الرأي العام في أميركا أو إسرائيل؟
أمّا في قضية «حل الدولتين»، فهل يستطيع ابن سلمان القبول باتفاق لا يُفضي إلى إقامة دولة فلسطينية؟ وهل له مصلحة في ذلك من الأساس؟ ثمّة تجربة قد تكون مفيدة العودة إليها، هي محاولة تمرير «صفقة القرن» التي انتهت إلى فشل ذريع، بعد أن تورّط ولي العهد السعودي في محاولة فرضها على الفلسطينيين والأردنيين، في بدايات صعوده إلى السلطة عندما كان يواجه تحدّيات داخلية لحكمه، دفعته إلى الانخراط كلياً في مشروع الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ذاك.
ولي العهد السعودي هو أكثر من اختبر الكراهية للسعودية في الولايات المتحدة، ومشكلته هنا لا تقتصر فقط على العلاقة السيئة بهذه الإدارة. فالذي امتنع عن الردّ على هجوم «أرامكو» عام 2019، هو ترامب، وليس بايدن. كما يدرك أنه في هذه السعودية هو أكثر الممقوتين من قبل الأميركيين، فهل يسلّمهم رقبته، بعد أن نجا في بداية عهد بايدن من براثن الدولة العميقة في أميركا التي كانت لتفضّل الإطاحة به وتسلمّ أيّ أمير قادر من أسرة الحكم الكبيرة بدلاً منه؟
قد يكون ابن سلمان استطاع أن يفرض تغييرات في المجتمع السعودي، إلا أنه قطعاً لا يستطيع تغيير الميول السياسة الكامنة للسعوديين، والتي تعبّر بطرق مختلفة عن كراهيتها للإسرائيليين والأميركيين. مع ذلك، لا يتوهّمن أحد بأن النظام السعودي ينطلق في علاقاته الخارجية من مبادئ أو أخلاق، وإنما من مصلحة النظام. ولو قدّم الأميركيون فعلاً ما يطمئنه إلى مستقبله لذهب معهم حيث شاؤوا، وإنما ثبت له بالتجربة (تحديداً في قضية صفقة القرن) أن ثمّة خطاً لا يستطيع النزول تحته، وإلّا فقد يترتب على أي مغامرة من هذا النوع، تهديد له.
صحيفة الاخبار اللبنانية