ارتفع صوت الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ردّاً على إرسال الولايات المتحدة حاملة طائراتها، «جيرالد فورد»، إلى المنطقة. وتُعيد عبارته المنتقدة لِما تفعله الحاملة في شرق المتوسط، فيما أميركا بعيدة آلاف الكيلومترات عن إسرائيل، إلى الذاكرة موقفه من التدخُّل الأطلسي في ليبيا، في عام 2011، وسؤاله، آنذاك، عمّا يَفعله الحلف هناك. في حينه، لم يمضِ وقت طويل حتى كانت تركيا، ومن دون وجود أيّ قرار دولي، تنخرط مع «الناتو» في غزو ليبيا، ومهاجمة معاقل معمر القذافي بالطائرات. لم يُرد إردوغان أن يكون خارج الكعكة الليبية، وخصوصاً أنه كان في تنافس محموم مع فرنسا وبريطانيا على كسب النفوذ في هذا البلد. اتّسمت علاقات تركيا بـ»حلف شمال الأطلسي»، على امتداد فترة عضوية الأولى في الحلف، منذ عام 1952، بطلعات ونزلات. ومع ذلك، كانت أنقرة تعود في كلّ مرّة إلى الانتظام في صفوفه، ولتكون شريكته في كلّ عمليّاته، لأنها تدرك أن عضويتها في «الناتو» شكّلت «الضمانة» في مواجهة المعسكر الشيوعي، ومن ثمّ «الأخطار» المشرقية الكامنة.
وبالعودة إلى البيان الصادر عن البرلمان التركي، الذي انعقد في جلسة خاصّة بغزة، أول من أمس، يتّضح أن الهدف الذي رسمه إردوغان انعكس في جوهر البيان، الذي دعا إلى المفاوضات بين الجانبَين الفلسطيني والإسرائيلي، وحلّ الدولتَين، وأبدى استعداد تركيا لتكون وسيطاً. أمّا انتقاد إردوغان لقدوم حاملة الطائرات الأميركية، فيمكن إدراجه في سياقات داخلية أكثر منها خارجية؛ فالمناخ المعادي للقضيّة الفلسطينية، الذي استند إردوغان في اعتماد «الحياد» إليه، بات يشكّل خطراً على ماهية عقيدة «حزب العدالة والتنمية» الإسلامية. وحين صار على الرئيس التركي، الذي ساوى بين القاتل والضحية، في الأيام الأولى لعمليّة «طوفان الأقصى»، أن يعتدل بعض الشيء تجاه غزة، فما كان منه إلّا أن هدّد بمعاملة إسرائيل كمنظّمة لا كدولة. ومع ذلك، لا يمكن توقُّع أن ينتصر إردوغان لغزة، على حساب العلاقة مع تل أبيب، ومع واشنطن. فالمواقف التي اتّخذها، ومعه كل الآلة الحزبية والإعلامية لـ»العدالة والتنمية» وشريكه «الحركة القومية»، في الوقوف على الحياد، مستمرّة، ولم تتغيّر، في ما يمكن أن يشكّل لاحقاً مساراً أكثر إخلالاً بالتوازن لغير صالح القضيّة الفلسطينية. ومهما كانت الأسباب والذرائع، فإن الوقوف على الحياد بين قاتل وضحية في قضيّة العرب والمسلمين الأهمّ، يعني تلقائيّاً، ومن دون أيّ حاجة إلى الاجتهاد، الانحياز إلى جانب القاتل.
وفي مبررّات وذرائع «الحياد» التركي، يمكن التوقّف عند الآتي:
1- فاجأت عمليّة «طوفان الأقصى» إردوغان الذي يعمل، منذ ثلاث سنوات، للتقرّب من إسرائيل، وتطبيع العلاقات معها، انطلاقاً من اعتقاده أن المال اليهودي سيتدفّق على تركيا، لتعزيز الوضع الاقتصادي، وهو ما كان الرئيس التركي في أمسّ الحاجة إليه عشية الانتخابات الرئاسية في ربيع 2023. وربّما رأى إردوغان أن أيّ موقف تضامني مع فلسطين في غزة وغيرها، سينسف كلّ ما بناه في السنوات القليلة الماضية.
2- التقى إردوغان للمرّة الأولى وجهاً لوجه مع رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، في العشرين من الشهر الماضي، في نيويورك، ليعلن بعد عودته إلى بلاده، أن البلدَين سيعملان معاً للتنقيب عن الغاز في المناطق الاقتصادية الإسرائيلية والتركية، ولتصدير الغاز الإسرائيلي عبر أنبوب بحري من إسرائيل إلى تركيا فأوروبا. لهذا، ربّما يرى أن أيّ موقف تضامني مع فلسطين سيفجّر هذه الخطط على صعيد الطاقة، ويحرم تركيا من فرصة الاضطلاع بدور مهمّ في سياسات الطاقة العالمية، ولا سيما بعد استبعادها من خطّة «الممر الهندي».
3- ساهم التعاون، بل التحالف التركي – الإسرائيلي – الآذربيجاني، في تحقيق انتصار مهمّ، في الـ19 من أيلول الماضي على حساب أرمينيا وإيران في القوقاز، بعد اقتلاع الأرمن من أراضيهم في قره باغ وتهجيرهم منها، فيما يبدو إردوغان في حاجة إلى مواصلة هذا التحالف المثلّث في أكثر من مكان. وتجدر الإشارة إلى أن الموقف الآذربيجاني الرسمي والإعلامي لا يصف حركة «حماس» إلا بكونها منظّمة إرهابية، منحازاً إلى جانب العدو.
4- إن الحفاظ على علاقات تركية مميّزة مع إسرائيل يُعدّ جزءاً من العودة التركية إلى الحضن الأطلسي بعد «قمّة فيلنيوس» في 12 تموز الماضي. ولعلّ موقف النأي بالنفس التركي من عمليّة «طوفان الأقصى»، يريح واشنطن.
5- يطمح إردوغان، بموقفه الحيادي هذا، إلى أن يضطلع بدور الوسيط بين «حماس» وإسرائيل، ليجدّد التأثير التركي في المعادلات الإقليمية، وليكون ذلك استعاضة عن تراجع دور تركيا الوسيط بين أوكرانيا وروسيا.
6- يؤخذ على السلطة الرسمية، في الوقت نفسه، أنها لم تبادر، إلى الآن، إلى تنظيم حملات إعلامية وإعلانية متلفزة لجمع التبرعات، أو الدعوة إلى تقديم مساعدات إنسانية أو مولدات كهربائية أو أدوية أو مواد طبية، أو إبداء الاستعداد لاستقبال الجرحى في مستشفيات تركية.
7- كذلك، كان فاقعاً ألّا تدعو تركيا أيّاً من المنظّمات المعنية، من مثل «منظمة التعاون الإسلامي» أو مجلس الأمن أو غيرهما، إلى اجتماعات عاجلة لبحث الوضع في غزة، لتعمّم بذلك نأيها الكامل عن القضيّة الفلسطينية.
8- تبقى الخشية من مواقف إردوغان الحالية الداعمة ضمناً لإسرائيل، كامنةً في أن الحملة المعادية لـ»حماس» والمقاومة، والتي تروّج لها بقوّة وسائل إعلامه ومسؤوليه، قد تؤسّس – ولعلّها أسّست – لنزعة كراهية وعداء تجاه المقاومة وفلسطين لدى التيار الإسلامي في تركيا، الذي، وعلى الرغم من كل ذلك، لا تزال بعض الأقلام فيه تغرّد خارج سرب الماكينة الرسمية والإعلامية لإردوغان وسلطته.
صحيفة الأخبار اللبنانية