العراق: الانهيار الميداني والتمرين للحرب الأهلية (طارق الدليمي)

 

طارق الدليمي

في خضم الوضع المتداعي حاليا ومن خلال دخان التفجيرات الملتهبة في العاصمة ومعظم المدن الرئيسية، تبدو جميع النخب الحاكمة في حالة متميزة من الكذب العلني، حيث تتحدث عن سعيها المزيف من أجل «دولة دستورية وبإيقاع لاطوائفي وتحرز أغلبية شعبية داعمة». فهذه الأقانيم الثلاثة لا تجتمع تحت مظلة واحدة وفي ظل العملية السياسية الملفقة وتحت إشراف الاحتلال ومؤسساته. إن العوامل الاقتصادية المتجددة لأعضاء «الكوندومينيوم» الاقليمي تعوق عمليا كل المحاولات المبذولة من أجل اتخاذ القرار الحاسم في استقلالية القرار السياسي والاتجاه فورا نحو عقد مؤتمر حقيقي للأزمة، يمهد الطريق إلى الاعتراف بخطورتها وانتهاج السبل الناجعة لحلها والمباشرة بالحفاظ على وحدة البلاد وكبح كل عناصر التفجير العنفية واستئصال احتمالات استخدام مفاعيلها في الصراع القائم. إن تركيا، مثلا، توظف الآن، وزيارات داود اوغلو المتكررة إلى مناطق تركمانية خارج عرف السيادة الوطنية والدبلوماسية، كل إمكانياتها المادية في جدولة المحافظات الشمالية، عربية أم غيرها، في مخططها الاقليمي من أجل تجميع كل أوراق القوة وإشهارها في وجه حكومة بغداد، لإضعافها ودفعها للانهيار والهرولة إلى تسوية مجحفة تطلبها أنقرة الآن بالذات لمعادلة فشلها الاستراتيجي في التحالف مع الإسلام الوهابي السياسي في الاقليم المحيط بالعراق. ولا تدخر هي أي جهد في العبث، من خلال الخاصرة الموصلية، بالجغرافية السياسية للعراق وتحويلها إلى أداة تكون الحدود مع العراق جزءا من التخوم الامبراطورية العثمانية القديمة وخارج حتى الاتفاقات الدولية وأهمها التي عقدت في العام 1924 وتحت إشراف عصبة الأمم والدول، ومنها أميركا، وهي بذلك تستغل الوضع الأميركي الصعب في تجاذباته البندولية بين عقبات الرجوع المكثف إلى البلاد واستحالة البقاء خارجه ضمن المصالح الاستراتيجية الاميركية المباشرة والبعيدة الأمد في الإقليم.
إن الهدف التركي لا يتفرغ فقط لضرورة قطع الأواصر العراقية مع ايران وسوريا، وانما هو عمليا يؤدي أيضا إلى خنق الوطن ومنعه من التلاقي والتلاقح مع المحور الآسيوي الشرقي الفعال وانتهاز العزلة العراقية عن البحار المحيطة به، ومن ثم تشجيع كل التيارات الاجتماعية السياسية المتطرفة، وتحديدا الوهابية المسلحة، واستفزاز التشكيلات الموالية لإيران وإجبارها على الرد العسكري والإمعان في خلط الأوراق. وأخيرا وليس آخراً، محاولة القضاء على أفكار العمق القومي للعراق وتركه في مهب التطاحن الدولي الاقليمي وعزله عن إمكانية أي تحالف استراتيجي مع القوى الحية الإقليمية يعينه على الوقوف على قدميه من أجل بناء الذات والموضوع في سياق الاستقلال السياسي الناجز، وقد أشار إلى هذا الموضوع الخبير في العلوم السياسية ادوارد مانسفيلد في دراسته: «انتخب وقاتل» حيث ثبّت العلامات الفارقة لفشل الاحتلال الأميركي في رغبته المزيفة في إعادة إعمار الوطن وذلك ضمن مخططه الشامل المسبق الصنع في ما يسمى بناء الأمم بعد انهيار دولها الاستبدادية.
إن السؤال المركزي الذي أثاره مانسفيلد بالنسبة للعراق هو: كيف يمكن تأسيس البنى في العراق الاحتلالي؟ وهو يتضمن شقين: الأول، تأسيس البنية التحتية للديموقراطية الاحتلالية، والثاني: تأسيس البنية الفوقية للثقافوية الجديدة والتي ستكون هي الوعاء الرحب لعمليتي التطور لإنهاء الاحتلال، والتقدم لبناء الدولة الوطنية العتيدة. وإذا كان مانسفيلد حاذقا في السؤال الجوهري، فإن الباحث في علم الاجتماع في جامعة «تينسي» الاميركية ويليام روبنسون كان مرهفا في إجاباته القاطعة: إن العبور الشاق نحو الخلاص العراقي لا يمر إلا عبر استثمار الغليان الإيجابي في الشارع والذي ينذر سلبيا بين الفينة والفينة بخطورة الانفجار الشامل أي حرب الجميع ضد الجميع، وهو الشعار اليومي للدولة البدائية الجديدة التي أعاد إنتاجها الاحتلال على أنقاض الدولة الوطنية العراقية السابقة.
إن الاستثمار المطلوب هو القناعة الفكرية السائدة بأن أميركا لا يمكنها أن ترجع، ويجب أن لا ترجع، إن كانت قد خرجت فعلا. ولا بد من العمل لإخراجها كليا إن كانت أو ظلت موجودة. هذه المسافة الجدلية لا يمكن اختزالها إلا بالكفاح المنهجي ضد ايديولوجية الغزو والاحتلال للامبريالية العالمية ومحاولات استدعائها في كل لحظة قاتمة، ومن خلال امتحانات عديدة قاسية بين عمليتي الذهاب والإياب في الواقع السياسي المحموم. وعملية الكفاح هذه تتضمن أيضا السؤال التاريخي: لماذا يستثنى العراق دائما من الرعاية التاريخية من قبل الغرب في التطور السياسي والتقدم الثقافوي المؤسساتي في كل الحقب المتتالية: الدستورية الملكية، البونابرتية العسكرية، وأخيرا في ظل الاحتلال المباشر. وهنا نكتفي مؤقتا بجواب الاقتصادي جون توي والقائل بأن «الاحتلال الاميركي قد وضع النهاية الكاملة قيد التنفيذ لاقتصاد التطور والتقدم وبدأ في تنفيذ جدول اقتصاد اورويل الذي يعني الفوضى المطبقة على خناق المواطن تحت الرقابة الخارجية الصارمة».
إن الربط بين الفشل الاقتصادي والتفاقمات الاجتماعية الحادة، مع الانتهاكات الدورية والدائمة للحالة السياسية للجماهير عموما، وبعض القطاعات الشعبية، أصبح الآن واجباً لبعض النخب الحاكمة، من أجل استخدامه موضوعيا لتأجيج التناقضات ودفعها رويدا رويدا نحو المعالجة العسكرية، وإذ لا يمكن التكهن بالأخيرة وعقابيلها من الناحية التحليلية المبسطة، لكنها تبقى العنصر الرئيسي في الصراع والصورة الأولى المكررة على شاشات العلاقات العامة بين القوى المركزية في العملية السياسية من جهة أو في كنف بقايا القوى الحية من الجهة الأخرى.
وإذا ما دوّنا جرداً سريعاً لوجهات نظر النخب الأميركية الاحتلالية للعراق، فإننا سنواجه معادلات مفجعة لحالات الاستعصاء الراهنة الآن. فإن المندوب السامي السابق، ايان كروكر، يقول: إن أميركا لم تسترجع لحد الآن ما صرفته على احتلال العراق، وإن بناء اقتصاد حقيقي في العراق خارج قطاع المحروقات أو داخله لا يبدو قريبا، لذلك فإن الحرب الأهلية واردة جدا وقانونها واضح، إذ انها تندلع كل خمس سنوات على الأقل حول السلطة والموارد وبدون ضوابط بل حتى من دون وسيط خارجي. أما ضابط إيقاع الاحتلال بول وولفويتز فيغرد: «كيف يمكن البناء مع وجود نيات حقيقية مبيتة للتقسيم لدى: قيادات بارزة في الادارة الاميركية. قيادات مسؤولة في العديد من دول الجوار وقيادات مهمة في النخب العراقية التي تنفذ العملية السياسية».
ومن اللافت للانتباه أن المحلل الاميركي ويليام انغدال في دراسته أيضاً «بذور التدمير» يشير بالتفاصيل إلى أن حركة «طالبان» حين سيطرت على أفغانستان لم تحدث تغييرات في كل ما تركه الاتحاد السوفياتي بعد انسحابه والإنجازات التي تحققت تحت الوجود السوفياتي والحكومة الشيوعية المرتبطة به! وإذا كان السوفيات قد فشلوا سياسيا ومن خلال نخبهم الأفغانية، لكنهم لم يهدموا البلاد وإنما بالعكس حققوا الكثير على صعيد البنيان الاجتماعي والاقتصادي، وما زالت المنشآت السوفياتية قائمة وعاملة حتى الآن وتحت الاحتلال الاميركي وحكومة قرضاي التابعة له. ويجزم انغدال بأن الفشل المركزي الأهم لحكومة نجيب الله الأخيرة يكمن في نقص الوقود اللازم لإدارة عمليات البناء والمواجهة العسكرية مع مجاهدي أميركا والسعودية.
لقد سرق العراق بالكامل وتم وضعه تحت حراسة نخب «الكشكول» السياسي الاحتلالي حيث تحولت الديموقراطية الاحتلالية إلى ملكية فكرية للمجموعات الاقتصادية، في الداخل والخارج تربح «اكسون موبيل» من العراق 1287 دولارا بالثانية، والمنضوية تحت لواء القوة المسلحة «لهيئة الاستثمار العليا» والمرتبطة مباشرة مع مكتب الوزير الأول. إن الطبقة المالية الجديدة التي تتحكم بشؤون العباد والبلاد الآن وتحت حماية الشركات الأمنية العالمية هي الغرف السوداء المغلقة لاقتصاد «اورويل» التي تدير كل اللعب السياسية الاقتصادية في العراق والاقليم. ومن الجدير بالذكر أن الامتداد العربي شبه الرسمي لها يتمثل في مجلس العلاقات العربية وأمينه العام إياد علاوي، والذي تشكل على غرار «مجلس العلاقات الخارجية» الاميركي في الإطار والمضمون، وقياداته السياسية المالية لها دور أميركي تنفيذي في معظم الدول العربية التابعة «لمجلس التعاون الخليجي» في كل الميادين الاقتصادية والسياسية والعسكرية ودورها المركزي في «الربيع العربي» المشهور. ويؤكد انغدال أيضا أن الديبلوماسي الراحل الاميركي جون بول والاستراتيجي بريجينيسكي قد تعاونا سوياً مع الأجهزة الأمنية الخاصة في المؤسسة الاميركية من أجل استكمال، بدءا من أفغانستان، بناء الطوق الإسلامي حول الاتحاد السوفياتي، وذلك للإسراع في انهياره. وبالاستناد إلى نظرية برنارد لويس في البلقنة الاسلامية في الاقليم، ومن أجل انفجار الصراع والحروب بين الهلالين الشيعي والسني وزج شعوب المنطقة، العرب والاكراد والفرس والاتراك، في حروب طائفية عرقية دامية مستمرة تؤدي حتما إلى تقسيم الاقليم ورجوع حكومات الطوائف المتناحرة تحت الحماية الاسرائيلية الغربية المشتركة. واختتم انغدال قوله بأن العراق قد أصبح طاجنا عجيبا من الخضار واللحم يحترق يوميا في فرن الحروب الداخلية ومصدرا للارهاب الوهابي المسلح وغيره، المنتشر والممتد في كل دول الاقليم وخارجه، يتساءل الصحافي ايدوين بلاك بحسرة: ماذا ستكون حالة العراق في «اليوم قبل»، أي قبل نفاد النفط نهائيا من البلاد.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى