العناء والغباء
أرقام الخسائر هي الشيء الوحيد الذي أفهمه عندما استمع، متفرجاً بريئاً
من الأرباح، على نشرات البورصة.
هب لغة جديدة حتى على السوريين قبل افتتاح سوق الأوراق المالية مؤخراً.
فلقد كانت مفرداتنا، المبالغ بمعانيها، ثورة ضد الاستعمار (وقد تحررنا) وحلم العدالة (وقد دفناها وهي تلبط قبرها)، وتحرير فلسطين (وقد أصبحت أربع فلسطينات) والتنمية ورفع مستوى المعيشة (وقد وصلنا إلى تربية الأظافر وتنويع طلائها من كل مصادر معيشة الجمال المستورد).
ولقد أصبحت مفردات البورصة تتردد يومياً:
“جلسات التداول المضافة. انفراجات في الحدود المحدودة التي تشهدها السوق. ضعف قيم التداول. مرونة التحفيز. التقلبات السعرية. هامش حركة الأسعار. مؤشرات الأسهم. مضاعف الربحية. المستثمر الرشيد. القيمة الدفترية. رأس المال السوقي”. إلى آخر هذا القاموس.
وبالطبع ليس المقصود من هذا العرض للغة البورصة لفت نظر إلى “ضعف القيمة المضافة” إلى الوطنيات لدينا، كما أنه ليس جميلاً النوم مع صخرة جولانية محتلة يومياً، أو الاستماع، بدلاً من قطعة موسيقى خفيفة إلى صوت جرافات غزة، وطلقات الجنود حول وفي الحرم القدسي.
أو معركة الخيارات المطروحة حول إدلب، التي تستعد لأنواع من الكوارث ليس أقلها الدمار (في الخيار العسكري) والتدخل الخطر لأمريكا في الحالة الكيميائية إن حدثت.
لقد مر على السوريين، جيلاً وراء جيل أنواع متنوعة من تجربة أشكال الحياة التي تُعطى والتي تُؤخذ.
مرّ عليهم الجفاف. موت الحيوانات. نقص المواد الغذائية. فقرالسلعة الجيدة. منع الاستيراد. الحرمان من السيارة. أزمة نقل. أزمة سكن. إلى آخره من مصائب الحياة اليومية…
ولكن كان لدى السوري (المتوسط)، الطبقة الوسطى كما يقولون، الحد الأدنى من جشع العين واللسان، والرغائب متناسباً مع الحد الأدنى من “الأوراق المالية” الكافية للحياة المتوسطة… كان السوري “يشتري”!
اليوم… كل شيء متوفر. ومن كل أصقاع الصناعات الحديثة.”المول” الواحد يكفي لتمويل طبقة وسطى كاملة.
لكن السوري هذه المرة ـ “يشتهي” !
عادة كل بلد لديه ـ حسب وضعه ـ مشروع كبير يملأ وعاءه المشاريع الصغيرة.لكنني وأنا أتصفح الأبراج في الجرائد، أرى أن الأشخاص فقط لديهم مشاريع كبيرة: التحول من سمكة في مقلاة إلى حوت في بحر!!
………………..
أفتش عن الزمن. حيث كنا قبل عشر سنوات نستطيع مساومة الحياة على درجة التقشف، ومستوى التنازلات أمام الظروف، حيث في ظل السلام… السلام الكاذب الذي عشناه، يمكن التفاوض، يمكن العيش دون حرب، لم نفكر يوماً أنها ستكون مصنع خراب المستقبل. وأنها ستهدم، ليس العمارة، وإنما روح الإنسان.
اليوم نقول: خذوا هذه الحرب، بكل (إنجازاتها) وأعيدوا لنا الماضي بكل أخطائه وخطاياه… ومع تكرار هذه الصرخة نكتشف أن ما نحلم به أصبح من الماضي. الزهايمر السوري هو تذكر البعيد… الماضي. أما الحاضر فجملته المفضلة: من أنت؟
أحياناً أتساءل: هل يستحق العيش كل هذا “العناء”؟
ولكن في اليوم التالي أبدّل كلمة “العناء” بكلمة أخرى هي مفتاح العيش “العناد”…
ونقرر ما يلي: لا عودة إلى الماضي بأخطائه، ولا بقاء في الحاضر بكوارثه…
لا بأس ـ إذن ـ بالتسول على أبواب المستقبل تجنباً للكلمة الثالثة: “الغباء”!