العنف في الدراما المصرية: إنّه لعالم مجنون
لا يتوقف الحديث عن العنف في المسلسلات التلفزيونية، وإدانته بوجه عام، من دون تمييز. لكن لا يمكن الحديث عن العنف في الدراما من دون فهم الطريقة التي يعمل بها الفن، ومن دون الرجوع إلى المصدر الذي يستقي منه المؤلفون قصص وشخصيات وأحداث أعمالهم. وهو الواقع المعاش، والأهم منه الواقع النفسي للمجتمع الذي يعاني أحياناً من اكتئاب أو إحباط أو خوف يتم التنفيس عنه عبر مشاهد العنف والدم والقصص التي تتناول عالم الإجرام والعصابات والشر السادي.
منذ البداية، لاحظ المتابعون للدراما المصرية في رمضان هذا العام أنها تحفل بمشاهد العنف، في امتداد متوقع لظاهرة بدأت منذ خمس سنوات تقريباً، كردّ فعل للعنف الذي اجتاح الشوارع وشاشات التلفزيون عقب «ثورة 25 يناير»، وما تلاها من انتشار للبلطجة والإجرام والمذابح الدامية ضد المتظاهرين. سلوكيات لم تتوقف باستقالة الرئيس حسني مبارك، بل زادت وتيرتها وعدد ضحاياها، تاركة في النفوس والمجتمع آثاراً معدية.
هناك أيضاً العنف الذي تحفل به المنطقة من حروب طائفية وبشاعة ووحشية «داعش» وأخواتها من الجماعات الإرهابية، أو العنف الذي تمارسه بعض الدول ضد مواطنيها أو مواطني البلاد المجاورة.
كثير من العنف الذي تحتويه المسلسلات، هو الذي يمارسه المتطرفون والإرهابيون، من تفجيرات ومذابح لرجال الشرطة والأبرياء، كما نرى في مسلسلات مثل «كلبش» و«مليكة» و«أمر واقع» و«فوق السحاب» الذي تفنن في تصوير قيام متطرف يعيش في أوروبا، بجلد فتاة مراهقة لأنها ترفض ارتداء الحجاب. هذه المشاهد تندرج تحت التخويف ممن يمارسون هذه الأعمال العنيفة وسياقها الدرامي. الطرق التي يتم تصوير العنف بها «تخويفية»، لكن التخويف ليس الهدف الوحيد من العنف في الدراما، كما يمكن أن نرى من خلال تحليل بعض المشاهد.
«رحيم» ليس رحيماً
لا تخلو حلقة من مسلسل «رحيم» من معركة، معظمها يتم بالقتال اليدوي والأسلحة «البيضاء»، كالسكاكين والخناجر وما شابه. هي معارك مصممة بغرض الإبهار واستعراض قدرات بطل المسلسل ياسر جلال. يحمل المسلسل «لبساً» يصاحبه منذ الحلقة الأولى. فرحيم فاسد، مجرم، وقاتل، اعتقل عقب «ثورة يناير» بعدما هرّب مليارات الجنيهات إلى الخارج، ثم غادر السجن ليبحث عن أمواله الضائعة. خلال الرحلة، يتبين تدريجاً أنها رحلة «تطهر»، فيدرك أن حياته السابقة كانت خطأ، وأن عليه التكفير عن ذنوبه. لكن هذه الرحلة تمتلئ بالمغامرات المشوقة، التي يظهر خلالها بطولات خارقة، خاصة في كيفية القضاء على خصومه الأوغاد، وخداع رجال الأمن. يظهر ذلك بوضوح في المشهد الذي يظهر فيه نجم الأكشن أحمد السقا، كضيف شرف. يخوض الاثنان ـــ جلال والسقا ـــ معركة وصفت بأنها أقوى مشاهد المعارك في الدراما المصرية. المعركة مصممة بحرفية مثل معظم معارك المسلسل، وأضيف لها بعض الكوميديا. وفي نهاية المشهد، نعلم أنّ «أشرف» الذي يجسّده السقا، هو ابن أحد زملاء رحيم القدامى في الإجرام يتم ذبحه على يد عصابة منافسة. أشرف يرفض الانضمام لعصابة رحيم لأنه ضد العنف، رغم براعته في القتال. العنف بحدّ ذاته ليس مشكلة، ولكن المهم هو الجانب الذي تقف فيه. المهم حسب نصيحة السقا: «لا تظلم، لا تقهر، ولا تفترِ!».
صنّاع «رحيم» يدركون مدى تأثير النجوم «الطيبين» في تحقيق التعاطف و«التماهي» مع الشخصية التي يؤدونها، وهم يستعينون بعدد من النجوم كضيوف شرف للشخصيات التي تلعب دوراً في «تطهر» رحيم، مثل أحمد السقا وفتحي عبد الوهاب، بالإضافة إلى شخصية حبيبة البطل التي تؤديها نور. لكن من الملفت أن شخصية ضابط أمن الدولة الذي اعتقل رحيم، ويواصل مطاردته بقية المسلسل، يؤديها ممثل يخلو من مواصفات النجومية المتعارف عليها. هو ايهاب فهمي، قصير، قليل الحظ من الوسامة، ملامحه أكبر من عمره، وهو قطعاً ليس نداً لياسر جلال، ولا شخصيته نداً لرحيم بأي حال من الأحوال، وهو لا يحظى بتماهي وتعاطف المشاهدين حتى لو حظي بانحيازهم له بعقولهم. كان يمكن لدراما «رحيم» أن تتغير تماماً لو أن هذه الشخصية لعبها نجم شاب مفتول العضلات وجذاب كرحيم. ولو أن الربع أو الثلث الأول من المسلسل، قدم لنا رحيم كشخصية مضادة للبطل Anti- hero في مقابل الشرطي الشريف. لكن ما وصلنا هو التماهي مع رحيم الشرير، والتغير الذي سيحدث له لا دور للسلطة فيه. طبعاً هذه وجهة نظر صناع العمل لا نعترض عليها، فقط نريد التنويه!
«كلبش» و«نسر» و«أيوب»: لا يفل العنف سوى العنف
كل من «كلبش» و«نسر الصعيد» يدوران حول ضابط شرطة طيب في مواجهة شرير بالغ العنف والوحشية، يتفنن المسلسلان في وصفهما. من أصعب المشاهد في «كلبش» الهجوم على منزل البطل حيث توجد أمه وأخته وزوجته الحبلى، التي تلقى مصرعها، بينما تخرج الباقيتان مصابتين. كذلك مشاهد الهجمات بالأسلحة الثقيلة على نقاط التفتيش وعربات الشرطة، حيث يقتلون الجميع كل مرة، ما عدا بطلنا «سليم» (أمير كرارة). العمل مقتبس مباشرة من سلاسل أفلام «ماكس المجنون» و«استماتة» لميل غيبسون وبروس ويليس على التوالي.
من أعنف المشاهد في «نسر الصعيد» مشهد مقتل الشيخ صالح (محمد رمضان) على يد اللص والقاتل ومهرب الآثار «هتلر» (سيد رجب). يقوم هتلر بصدمه بسيارته، ثم يشعل النيران فيه. محمد رمضان، كما نعلم، يلعب أيضاً دور الابن زين الذي سينتقم لمقتل أبيه، ولو بعد حين. المشهد يذكرنا بمشهد مشابه من مسلسل «الأسطورة» لمحمد رمضان أيضاً، حيث يُقتل الأخ الطيب بوحشية، قبل أن ينتقم له الأخ المجرم، ويمكنكم التخمين أن رمضان كان يلعب كلا الشخصيتين أيضاً.
لا يضاهي عنف «كلبش» و«نسر الصعيد» سوى عنف مسلسل «أيوب» لمصطفى شعبان. يتعرض الأخير لجرعة ماسوشية هائلة من الظلم والقهر والخيانة والعنف البدني. يحفل المسلسل بمشاهد عنف بين المساجين داخل السجن. مشاهد محببة لصناع مسلسلات هذا العام، حيث نجدها بكثرة في الحلقات الأولى من مسلسلي «فوق السحاب» و«طايع».
السادوماسوشية الاجتماعية
العنف ضد الأبطال لا يقتصر على هذه الأعمال. أحد أكثر المسلسلات التي تقوم حبكتها على الظلم والعنف ضد الأبرياء، مسلسل «أبو عمر المصري» الذي تحول إلى ارهابي بسبب هذا العنف الذي مورس ضده وضد أصحابه، على رأسهم ابن خالته الذي قتل برصاص قناصة السلطة في مشهد لا يحتوي الكثير من الدماء مقارنة بالمشاهد سابق ذكرها، لكنه لا يقل عنها عنفاً وتأثيراً، إن لم يزد.
طبعاً، هذه الماسوشية في تصوير العنف الذي يمارس ضد الأبطال، ما هو إلا تمهيد، وتبرير، للعنف السادي الذي سيمارسونه هم ضد المجرمين والقتلة والارهابيين.
بشكل عام، تستخرج هذه الحبكات والمشاهد الدموية مشاعر سادوماسوشية لدى الجمهور، يفرغ من خلالها شحنات من الرثاء للذات والغضب والانتقام. لكن الفارق هو الكيفية التي يتعامل بها صنّاع عمل ما مع هذه الشحنات الانفعالية. هل يكتفي العمل بالتنفيس أم يصل إلى التحريض أم يخاطب العقول والإنسانية في النهاية، ويبين أن العنف لا يتولد عنه سوى عنف مضاد، وأنّ هذه الدائرة الجهنمية لا يمكن إيقافها إلا بالتسامح والتعددية والديموقراطية الحقيقية؟
نعتقد أنّ «أبو عمر المصري» سينحاز إلى صوت العقل، وأن «طايع» سينحاز إلى الإنسانية، ونهايتهما ستدين كل أشكال العنف. وعلى العكس، سيصل «كلبش» و«نسر الصعيد» و«أيوب» إلى قمة العنف «التنفيسي». أما التحريض على العنف، الذي تتهم به المسلسلات ليلاً نهاراً عن غير وجه حق، ولا وعي بوظيفة الدراما، فلا نعتقد أنّه يوجد تحريض إذا استثنينا تحريض «كلبش» و«نسر الصعيد» و«أمر واقع» و«مليكة» للسلطة على التصدي للإرهابيين بيد من حديد!
صحيفة الأخبار اللبنانية