الغرب – سوريا: «الوحوش الباردة» تبدّل حساباتها
بعد عدة أيام من التجاهل الغربي الكامل للضحايا السوريين بفعل الزلزال المروع الذي ضرب سوريا وتركيا، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية ترخيصاً عاماً يسمح بجميع المعاملات المتعلّقة بالإغاثة من الزلزال، والتي كانت محظورة بموجب لوائح العقوبات المفروضة على سوريا، وذلك لمدة 180 يوماً. وعلى الرغم من أن هول الكارثة التي حلّت بالسوريين يحض على الإفادة من أيّ خطوة أو قرار لمواجهة آثارها وتداعياتها، فإن السعي للفهم الدقيق لخلفيات مثل هذه الخطوات والقرارات، يبقى أمراً شديد الأهمية، خاصة في حالة سوريا. فحرب التدمير المنهجية التي تعرّض لها هذا البلد من قِبل ائتلاف دولي – إقليمي متعدّد قبل الزلزال الأخير، وما نجم عنها من خراب عميم، تدفع تلقائياً إلى إمعان النظر في «يقظة الضمير»، المفاجئة، لدى بعض أفرقاء هذا الائتلاف، حيال المأساة السورية الراهنة.
قد يكون من المفيد بدايةً إعادة النظر في بعض المفاهيم التي يَكثر استخدامها في السياق الحالي، وفي المقدمة منها مفهوم «المساعدات الإنسانية». فهذا النمط من المساعدات ينطلق تعريفاً من اعتبارات مبدئية وقيمية «إنسانية»، أي منزّهة عن حسابات المصالح وتعظيم النفوذ، ومتحرّراً من الانحيازات والانتقائية التي تُمليها مثل هذه الحسابات. على أنه لا يمكن إدراج المساعدات التي تقدّمها دولة ما لجهة حليفة، إن كانت دولتية أو غير دولتية، في خانة «الإنسانية»، لأنها تأتي ترجمة للتحالف، أو لتقاطع في المصالح، وإن كانت غايتها الإسهام في العون على مواجهة مفاعيل كارثة طبيعية أو خسائر بشرية ومادية متأتية عن نزاع. وحتى عندما تبادر الدول إلى إرسال مساعدات وفرق إغاثة إلى بقعة أخرى من العالم، يرتبط ذلك بدبلوماسية المساعدات، وغايتها تعزيز الموقع الدولي للجهة «المساعِدة»، والتأكيد أنها قوة فاعلة لا غنى عنها، وتحسين صورتها وسمعتها و«قوتها الناعمة»، وما يستتبع هذا من زيادة في نفوذها في البقعة المذكورة وعلى الصعيد العالمي.
الدول ليست جمعيات خيرية ولا هيئات إنسانية، خاصة تلك التي كانت حتى زمن ليس ببعيد مركزاً إمبراطورياً للعالم، نشرت في أنحاء جنوبه الموت والدمار وتحكّمت بمصائر شعوبه وثرواتها لقرون طويلة. دول المركز الإمبريالي الغربي، قبل غيرها، «وحوش باردة» لا ضمير لها، يحرّكها المفهوم السائد في أوساط نخبها لِما تراه مصالح عليا للدولة، غالباً ما تتطابق مع مصالحها الخاصة، واستراتيجيات السيطرة والتحكّم التي تعتمدها تجاه البلدان والشعوب الأخرى. سبق للفيلسوف فردريك نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زردشت»، أن اعتبر أن «الدولة أبرد الوحوش»، واستعاد الرئيس الفرنسي، شارل ديغول، المقولة نفسها في حوار شهير مع مساعديه. من الممكن خوض نقاش طويل حول الدور الفعلي الذي تضطلع به الهيئات والوكالات التابعة للأمم المتحدة، وأيضاً حول دور المنظمات غير الحكومية، المعنية بالشأن الإنساني، ومدى تأثير القوى الغربية على أجنداتها وسياساتها، لكن ما يعنينا هنا هو تسليط الضوء على دور الدول بالذات، والمساعدات التي تقدّمها أو تسمح بتوفيرها. فقد أضحى سلاح العقوبات، أي حصار وتجويع شعوب بأسرها إلى درجة حرمانها من أبسط مقوّمات البقاء في بعض الأحيان، أحد أمضى أسلحة الحروب الهجينة الغربية التي تُشنّ ضد شعوب منطقتنا منذ عقود، وبينها الشعب السوري، ولن يتحوّل مهندسو هذه الحرب، بفعل زلزال كارثي، إلى هيئة إغاثة!
استراتجية خنق سوريا بالعقوبات، وبحرمانها من مواردها الطبيعية، التي يقع جزء رئيس منها في مناطق الشرق السوري الخاضعة لسيطرة ميليشيات «قسد»، «الحليفة» للولايات المتحدة الأميركية، كانت سياسة رسمية لواشنطن في عهد إدارة دونالد ترامب، وهو ما أشرنا إليه في مقال في «الأخبار» بعنوان «وصفة لخراب سوريا» في 1 آذار 2021، وهي لم تتغيّر على أرض الواقع في ظلّ إدارة جو بايدن. وقد أقرّ جويل رايبورن، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا أيام ترامب، أمام الكثير من زواره، أن «لا ضير من صوملة هذا البلد»، إن كان ذلك سيفضي إلى كسر هذه الحلقة المركزية في محور المقاومة. ما الذي تغيّر اليوم؟ من البديهي أن واشنطن لا تنظر بعين الرضى إلى شروع الإمارات في تطبيع علاقاتها مع سوريا، وإبداء السعودية في مناسبات عدّة استعدادها لفعل الأمر عينه. وعلى الرغم من أن تلك الأطراف تحرص على التأكيد أن هكذا خطوة ستزيد من قدرتها مستقبلاً على التأثير على الموقف السوري، والسعي لإبعاد دمشق عن طهران قدر المستطاع، لم تقنع حجّتها الطرف الأميركي الذي تدخّل أكثر من مرة لتعطيل عملية التطبيع المشار إليها. ولا شك في أن ما اتّضح من تباعد في السياسات بين دول الخليج والولايات المتحدة، على خلفية الأزمة الأوكرانية، والتطور الكبير في علاقات الأولى مع الصين، والذي فُسّر على أنه مؤشّر إلى اتّساع هامش استقلالية هذه البلدان حيال واشنطن، هو من بين أسباب معارضة واشنطن لانفتاح خليجي على دمشق يستند أساساً إلى أجندة خاصة لا إلى الأجندة الأميركية.
الكارثة الإنسانية قد تكون عامل تسريع لعملية الانفتاح المذكورة، وقد تشجّع أطرافاً إقليمية ودولية أخرى على اتخاذ قرارات مماثلة. فقد كشفت معلومات جرى تسريبها إلى وسائل الإعلام الفرنسية أن هناك جهوداً إماراتية لحمل باريس على تطبيع تدريجي مع سوريا. صحيح أن وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، ساقت في مقابلة مع «الشرق الأوسط»، أياماً قبل الزلزال، سلسلة اتهامات لسوريا ورفضت أي تطبيع معها، إلا أن مقالاً للصحافي جورج مالبرونو في «لوفيغارو»، أفاد منذ يومين بأن مثل هذا النقاش يدور في أوساط الرئاسة الفرنسية، وأن البعض يرى ضرورة المباشرة في حوار مع دمشق حتى لا تبقى باريس خارج مسار يتسارع في المنطقة. في كلّ الأحوال، وبمعزل عما إن كانت دول غربية ستتجرّأ على عدم الالتزام بالإملاءات الأميركية، فإن تطبيعاً عربياً مع سوريا، في الظروف الراهنة، سيعزّز من موقفها، ويخفّف من وطأة الحرب الاقتصادية التي تخاض ضدها، من دون أن تقدّم من جهتها أي تنازل بالنسبة إلى دورها في الإقليم وثوابتها المعروفة. في مثل ذلك السياق، يأتي قرار وزارة الخزانة الأميركية كتكتيك يهدف إلى عرقلة مساعي التطبيع، عبر محاولة التمييز بين المساعدات المقدّمة لمواجهة حالة الطوارئ الراهنة التي تعاني منها سوريا ومثل هذه المساعي. «الوحش البارد» الأميركي يلجأ إلى مناورة مكشوفة للمضيّ في حربه ضد سوريا، ومن يريد الوقوف إلى جانب شعبها عليه القطع الكامل مع سياسات التنكيل به التي اتُّبعت في مرحلة سابقة، وفتح صفحة جديدة في علاقاته معها.
صحيفة الأخبار اللبنانية