الـ «سوشال ميديا» والتعبير الثقافي حاضراً
باتت المعلوماتيّة وتقنيّاتها وتطبيقاتها الرقميّة تسيّر الحياة اليوميّة وبشرها، كما أنّها غيّرت طُرُق التعامل مع الواقع الفعلي، خصوصاً عبر الإنتاج المعرفي- الثقافي وطرق تخزينه وأرشفته واسترجاعه. الأرجح أن ذلك التغيير الضخم ناتج من واقع أن كل تطور في وسائل الإنتاج يؤثر في طُرُق فهم وإنتاج المعرفة والثقافة اجتماعيّاً وفرديّاً. لذا، تبدو الأزمنة المعاصرة أقرب ما تكون إلى مرحلة إعادة بناء الرموز التي تمثّل ثقافيّاً ومعرفيّاً، الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.
إذاً، كيف تتفاعل الثقافة في ظل التطوّرات التقنيّة ومساراتها، خصوصاً في ظل شيوع النشر الإلكتروني، وهي ظاهرة يشكل الإعلام الرقمي جزءاً منها.
سؤال الثقافة
يستخدم مصطلح الإعلام الرقمي Digital Media لوصف الإعلام المدعوم بالحاسوب والانترنت والشبكات الاجتماعيّة على أنواعها، والأدوات الرقميّة التي تساعد على التسجيل والبث، إضافة إلى الألواح الإلكترونيّة والهواتف الذكيّة والتطبيقات الرقميّة وغيرها. وحاضراً، بات الإعلام الرقمي مرتبطاً بظاهرة الـ «سوشال ميديا» Social Media، نظراً للإقبال الواسع من الجمهور العريض على الانخراط في ظاهرة الإعلام الرقمي، بمعنى أن الجمهور صار منتجاً غزيراً ومستهلكاً مكثّفاً لذلك النوع من الإعلام.
وقبل البدء بطرح النقاط والأسئلة، يمكن أن تكون البداية من سؤال عن ماهيّة الثقافة، ووجهة النظر التي يجري عبرها تعريف ذلك المصطلح؟ هل من المستطاع فعليّاً تقديم تعريف لذلك المفهوم في شكل لا لبس فيه؟ ألا يبدو ذلك المصطلح مطاطّاً لدرجة أنّه من المستطاع ملؤه بأشياء مختلفة تبعاً لوجهة نظر من يتولى التعريف، بمعنى أنه قابل لأن يفرّغ من محتواه المعرفي، على نحو ما يجري في أحيان كثيرة حاضراً؟ هل الثقافة تتداخل مع المعرفة؟ معرفة ماذا؟ هل المصطلح يرتبط بالمجتمعات وكيفيّة «تعاطيها» مع المعرفة؟
وفي بعض المجتمعات، من الممكن اعتبار مهارة القراءة والكتابة نوعاً من الثقافة، بمعنى أن تلك المهارة تشكّل أساساً للتعرّف إلى مجريات الأمور. في نفسٍ مماثل، ربما كان ممكناً اعتبار جمع النفايات ثقافة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الحديث في الفيزياء النوويّة أيضاً، وكذلك اكتساب مهارات معرفيّة معينة تساعد الإنسان في أمور حياته. بمعنى ما، من المستطاع القول إن الثقافة هي كلٌ اجتماعي يدخل في كل أنواع الممارسات الفرديّة التي تجري ضمن مجتمع معين، استناداً إلى معايير تتوافق مع ممارسات ذلك المجتمع.
الإعلام ونقل المعرفة
في ذلك النوع من المقاربة الذي يعرّف الثقافة بأنواع المعرفة ومهارات إدارة الحياة اليوميّة، تندرج في ضروب الثقافة أشياء فائقة التنوّع ربما تبدأ من جمع النفايات وفرزها، وصولاً إلى فهم الموسيقى الكلاسيكيّة (إذا نُظِر إليها بوصفها نوعاً من الرُقي المعرفي الذي يصعب على الفهم العام)، مروراً بأنواع المعارف التي تتعلق بتسيير أمور المجتمع بما لا يتضارب مع القوانين الاجتماعية التي هي من ضروب الثقافة أيضاً، بل أساس في المعرفة المتعلّقة ببناء المجتمعات.
وهناك ثنيات أخرى. إذ يعرّف المفكر والروائي الويلزي ريموند ويليامز الثقافة بأنّها: «طريقة شاملة في الحياة». بالاستناد إلى ذلك التعريف، من المستطاع طرح سؤال عن دور الإعلام العربي في عملية نقل المعرفة إلى الأفراد، وهو من شروط ارتقاء المجتمعات إلى مرحلة «المجتمع المثقّف»، ونشر المقاربة العلميّة التي ترتكز إلى المنطق الاستدلالي بمعنى الانتقال من الجزئي إلى الكلّي، ومراقبة الأفراد وسلوكهم للتوصّل إلى أحكام في شأنهم.
بنظرة استرجاعيّة سريعة، يمكن القول إن التطوّر المكانيكي أدّى إلى اختراع المطبعة على يد الألماني يوهانس غوتنبرغ، ما أفضى إلى تغيّرات عدّة في مجال النشر. أدّت تلك الميكانيكيّة إلى ظهور صناعة الكتاب الورقيّ مع ما تركه من تأثيرات شتّى، إذ انتقلت عملية القراءة من كونها جهوريّة إلى صامتة، كما تبدّلت آلية الكتابة ومعاييرها (بناء النص المطبوع وإخراجه، وإدخال علامات الترقيم والتنقيط ووضع معايير لها)، ووسائل صف الحروف وغيرها. ومع الطباعة، أعطي الجمهور الحق في القراءة والكتابة، من ناحية، ومن ناحية ثانية، امتلك الناشرون وأصحاب دور النشر سلطة تسمح لهم بتعديل النص وإعادة صياغته بطرق تلائم حاجاتهم الاقتصاديّة أولاً، وأذواقهم الجماليّة ثانياً.
وعلى نحو مُشابِه، أدّى اختراع الحاسوب وتشبيك الحواسيب في شبكة عالميّة، وخلق أدوات إلكترونيّة للنشر وتبادل النصوص وطبعها بشكلها الأصلي إلى ما لا نهاية، إلى تغيّرات في بنية النص، وإعادة ابتكار آليات جديدة للقراءة والكتابة. ولا تزال تلك الآليات تتطوّر باستمرار.
انزلاق تقني
لم يعد سراً أنّ عصر التقنيات أدخل الكتابة في عصر السرعة (لا التسرّع) وفرض عليها الاتجاه نحو الاختصار، مع الارتباط بطبيعة حامل المعلومات الرقمية (الهاتف الذكيّ مثلاً) من جهة، وبعض التطبيقات والبرمجيات وظاهرة الـ «سوشال ميديا» التي لا تسمح إلا بالكتابة المختصرة («تويتر» مثلاً). وفي صورة مستمرّة، يستمر الانزلاق أكثر نحو التقنيّات على حساب الاهتمام بالإنسانيّات والثقافة الواسعة، مع تذكّر أنّ الإعلام يتحمل جزءاً من المسؤوليّة عن ذلك الانزلاق.
وكذلك ساهمت المعلوماتيّة وأدواتها في انتشار أجواء من الحرية والديموقراطيّة التفاعليّة، خصوصاً مع تطوّر النشر الإلكتروني (وهو متعدّد الوسيط تعريفاً)، وإعطاء الجميع الحق بأن يكتب وينشر. وأوصلت تلك الأمور إلى استنتاجات أهمها «سحب البساط» نسبيّاً من تحت أقدام القائمين على النشر والطباعة في شكل عام، وإلى تخطي احتكار النشر من مجموعة معّينة تعتبر نفسها «شرطي» الإعلام الثقافيّ وواضعة معاييره!
ويجدر دوماً تذكّر أن النص يتأثر بمحتواه وشكله، كما يفعل بالنسبة إلى كاتبه وقارئه. وكذلك يحضر في البال أنّ التقنيات المعلوماتيّة أثّرت في عملية إنتاج النصوص، فأصبحت تتجه نحو الاختصار، لأن ذوق القرّاء حالياً لا يحتمل قراءة المطولات. وفي عصر المعلومات المتناقلة بسرعة الضوء عبر الشبكات الرقميّة، يجب ألا يغيب عن البال أن النصوص باتت تتعاطى مع جيل رقمي، ربما ينظر إلى لوحة المفاتيح بوصفها وسادة، بمعنى أن جيل الـ «زابينغ» بات يريد كل الأشياء سويّة ومباشرة، بل في الحيز الزماني نفسه.
لذا، تؤدّي شبكات المعلوماتيّة وتقنيّاتها وتطبيقاتها، خصوصاً الـ «سوشال ميديا»، دوراً أساسيّاً في تعريف الأفراد بالثقافات والحضارات، ما يفسح المجال أمام منتجي الثقافة بأنواعها، لتكون متاحة للجميع.
عزلة اسمها «إعلام عربي»
يبدو أن الإعلام العربي الكلاسيكي (مكتوب، مسموع ومرئي) لا ينقل المعرفة إلى مجتمعاته، كما لا يرتكز الى معاييرها ثقافيّاً، بداية من اللغة ومروراً بعلوم الإنسان والحياة البشريّة، ووصولاً إلى العلوم والتقنيّات. في المقابل، يبدو معظم الإعلام العربي منخرطاً في عملية نقل ثقافة الغرب بأكثر من اهتمامه بالإبداع في ثقافته. بديهي القول بأهمية التعرّف الى الآخر، لكن ذلك يختلف كثيراً عن أداء دور العارض التسويقي لثقافة الغرب، بمعنى الافتتان بالغرب وتقليده من دون تفكير نقدي ملائم، إضافة إلى الاكتفاء غير المبرر بدور الناقل لثقافة الآخر، مع عدم السعي إلى الإبداع. وتكفي مطالعة البرامج التلفزيونية كي نرى أن غالبيتها منتحلة عن البرامج العالميّة، بل أنها تتمثّل بها وتتماهى معها.
اضطهاد العلم!
في سياق مماثل، يبدو أيضاً أن الأدب بأنواعه وأجناسه هو المجال الوحيد المعتبر ثقافة، بل أنه يأخذ الحيز الأكبر من النشر الثقافي الأدبي، والشطر الأوسع البرامج التلفزيونيّة التي يُشار إليها بأنها «ثقافيّة». وفي معظم الصحافة العربيّة، تظهر كتابات عن مواضيع علميّة متنوّعة، لكنها تبدو أقرب إلى رفع العتب من الاهتمام المعمّق بالعلوم. واستطراداً، يغلب على تلك الكتابات الطابع الإعلاني (وليس الإعلامي المتمرّس)، فتميل للاهتمام بالمنتجات التقنيّة والطبيّة وغيرها.
وبالاختصار، من يتابع الإعلام العربي يخرج بانطباع مفاده أن الرياضيّات والفيزياء والفلسفة والآثار وعلم النفس والذكاء الاصطناعي وغيرها، ليست من العلوم. يكفي أن يسأل القارئ نفسه عن عدد المرّات التي شاهد فيها برامج تلفزيونيّة أو إذاعيّة (بل حتى نصوص مكتوبة) عن تلك الأمور.
تقود تلك الأمور للقول بأن قسماً من القيّمين على الإعلام العربي، يجب أن يوضع في خانة من يتحمّل المسؤوليّة عن ذلك «التجهيل» الذي يكاد يكون ممنهجاً. لا يعني ذلك بالضرورة أن كل من يعمل في مجال علمي ما، يستطيع نقل المعرفة التي يحملها إلى مجتمعه، وتبسيط ما يملكه من معرفة لإيصالها بشكل يتلاءم مع ثقافة الناس، كي تؤدي دورها الاجتماعي المبتغى. واستطراداً، يجدر القول بأن تبسيط العلوم من شأنه أن يؤدّي دوراً رئيسيّاً في وعي المجتمعات العربيّة وثقافتها وحضارتها، بما يتخطى التعرّف إلى الأدب والشعر، بل يستطيع أن يشكّل جزءاً من الحياة اليوميّة التي يفترض أن يكون لها حيّز في صفحات الجرائد ووسائل الإعلام العامة.
صحيفة الحياة اللندنية