افتتاحية الموقع

الفسيفساء البشري اللامتجانس في بلاد الشام| جدلية التاريخ والجغرافيا بعد انهيار العباسيين وحتى تفكك العثمانيين…

ماهر عصام المملوك

تعدّ بلاد الشام  الممتدة تاريخياً من جبال طوروس شمالاً إلى صحراء الحجاز جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً إلى الفرات شرقاًمن أكثر مناطق العالم تعقيداً من حيث النسيج السكاني والتاريخ السياسي. فهذه الرقعة من الأرض التي كانت مهدًا للديانات الإبراهيمية الثلاث، وملتقىً للحضارات الكبرى، تحوّلت منذ ما بعد انهيار الدولة العباسية إلى مسرح لصراعات محلية، دويلات متشرذمة، ثم لاحقاً إلى مكون هشّ ضمن الإمبراطورية العثمانية، قبل أن تُقسَّم من جديد على أيدي الاستعمار الأوروبي في مطلع القرن العشرين.

لكن السؤال المحوري: لماذا لم تتبلور هوية متجانسة في بلاد الشام، رغم الفترات الطويلة من الحكم المركزي؟ وهل سبب ذلك عرقي، ديني، سياسي، أم نتيجة تفاعل مركب بين عوامل عدة تراكمت على مدى قرون؟

أولاً: بلاد الشام ما بعد انهيار العباسيين

في عام 1258، سقطت بغداد على يد المغول، لينتهي فعلياً الحكم المركزي العباسي الذي كان، رغم ضعفه السياسي في مراحله الأخيرة، يمثل مظلة رمزية لوحدة العالم الإسلامي. بلاد الشام، التي كانت جزءاً من ذلك الامتداد العباسي، دخلت مرحلة من التشظي. برزت إمارات محلية (كالأيوبيين، ثم المماليك)، وتحكمت العائلات القوية في المدن والمناطق الجبلية، كل منها تسعى لتثبيت نفوذها بمعزل عن “الدولة المركزية”.

فنجد ان الدويلات بعد العباسيين كانت بين السلطة في يد العائلة والمذهب في يد اخرى

وفي غياب الدولة المركزية، نشأت سلطات محلية في المدن الكبرى، كثير منها استند إلى العصبية القبلية أو الانتماء المذهبي. فنرى مثلًا إمارات درزية ومارونية في جبل لبنان، وسلطة علوية محلية في جبال اللاذقية، وسلطة سنّية مدنية في دمشق، وأخرى شيعية في بعض مناطق البقاع. كل فئة اعتمدت على بيئتها الطبيعية ومواردها الخاصة لحماية نفسها من “الآخرين”، ما عزّز الانغلاق الطائفي.

ومن المهم ملاحظة أن الجغرافيا لعبت دورًا حاسمًا. فالمجتمعات التي عاشت في الجبال مثل النصيريين (العلويين)، والدروز، والمارونيين حافظت على استقلال نسبي بسبب وعورة مناطقهم، بينما كانت المجتمعات الحضرية في المدن الكبرى كدمشق وحلب أكثر عرضة للتأثيرات الخارجية والتحولات السياسية.

ثانيًا: الدولة العثمانية وتجميد التناقضات لا حلها

حينما دخل العثمانيون بلاد الشام في أوائل القرن السادس عشر (معركة مرج دابق 1516)، كانوا يحملون مشروعًا توسعيًا إسلاميًا مركزياً، هدفه بسط نفوذ “الخلافة” على أكبر مساحة ممكنة. واستمر حكمهم قرابة 400 عام، تمتع فيها الإقليم باستقرار نسبي، لكن الاستقرار لم يكن ناتجًا عن اندماج حقيقي بين مكونات المجتمع، بل عن تجميد التناقضات تحت مظلة إدارية لا اندماجية.

اعتمد العثمانيون نظام “الملل”، وهو نظام يترك لكل طائفة دينية حرية إدارة شؤونها الدينية والمدنية، شرط الولاء للدولة. هذا النظام حفظ التوازن، لكنه عمّق الفروقات؛ فبدلاً من صهر الهويات في بوتقة واحدة، عزز الانقسام. كل ملة كانت ترى نفسها كياناً مستقلاً داخل الكيان الإمبراطوري. المسيحيون الأرثوذكس والمارونيون، والدروز، والشيعة، والعلويون، وحتى السنّة أنفسهم كانوا يتمايزون في البنية الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية.

ثالثًا: سقوط العثمانيين والفراغ القاتل (1918–1920)

انتهى الحكم العثماني مع هزيمة الدولة في الحرب العالمية الأولى، فدخلت المنطقة مرحلة حرجة. تقاسمت بريطانيا وفرنسا إرث العثمانيين وفق اتفاقية سايكس–بيكو (1916)، التي تجاهلت بالكامل البنية الاجتماعية المعقدة لسكان المنطقة، وقسّمت بلاد الشام إلى كيانات سياسية جديدة (لبنان، سوريا، فلسطين، الأردن) بحدود مصطنعة لا تعكس الواقع الديموغرافي ولا الجغرافي.

جاء الانتداب الفرنسي إلى سوريا ولبنان، والبريطاني إلى فلسطين والأردن، بمشاريع سياسية تستند إلى الطوائف بدلًا من الهوية الوطنية. فُرضت دساتير وأنظمة تراعي المكونات الطائفية كـ”حصص”، مما شجّع كل طائفة على التمايز لا الاندماج. ومن هنا يمكن القول إن مرحلة ما بعد العثمانيين كانت بمثابة تفجير موقوت لتناقضات كانت مُجمّدة، لا حلّها.

رابعًا: قرن من الصراعات والاستقلالات الفاشلة

في المئة عام الأخيرة، لم تنجح أي دولة في بلاد الشام بتشكيل هوية وطنية تتجاوز الطوائف والمذاهب. في لبنان، تأسس النظام على “الميثاق الطائفي”، ومع مرور الزمن تحوّل من توازن هشّ إلى نظام محاصصة. في سوريا، حاول حزب البعث فرض هوية قومية عربية فوقية، ففشل في احتواء المكونات الأخرى، بل اصطدم بها في مراحل عدة، خاصة منذ ثورة 2011 وما تبعها من حرب أهلية فرزت السكان طائفيًا ومناطقيًا بشكل غير مسبوق.

في فلسطين، ما تزال قضايا اللاجئين، والانقسام الجغرافي بين الضفة وغزة، إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي، تمنع تشكّل هوية موحدة. أما الأردن، فقد بقي الأكثر استقرارًا، لكنه يواجه تحديات من تداخل المكونات السكانية (شرق أردنيين، فلسطينيين، بدو، شيشان… إلخ) وضعف الموارد.

خامسًا: لماذا لم تتبلور هوية متجانسة؟

1. العامل الجغرافي

بلاد الشام ذات تضاريس متنوعة ومعقدة (جبال، وديان، صحارى، سواحل). هذه التضاريس ساهمت في نشوء مجتمعات معزولة يصعب صهرها ضمن مركز سياسي واحد. التاريخ يشهد بأن المجتمعات الجبلية كانت دوماً أقل اندماجاً وأكثر تمرداً.

2. العامل الديني المذهبي

ظهور الطوائف الكبرى (شيعة، علويون، دروز، مسيحيون بطوائفهم المتعددة) واحتضان الجغرافيا لهم خلق بنى اجتماعية منغلقة. عدم وجود دولة قوية جامعة بعد العباسيين جعل كل طائفة تؤسس دفاعاتها الذاتية وثقافتها الخاصة.

3. العامل الاستعماري

فرّق الاستعمار كي يحكم. شجع النعرات الطائفية، وربط السلطة بطائفة أو مذهب دون آخر. ففي لبنان، سُلمت القيادة للمسيحيين الموارنة، وفي سوريا أُعطي العلويون دورًا محوريًا في الجيش. هذا أوجد مظالم تاريخية وتوازنات مشوهة.

4. فشل النخب في بناء دولة جامعة

رغم المحاولات القومية أو اليسارية أو الإسلامية، فشلت النخب السياسية في تجاوز العصبيات المحلية. لم تُبنَ مؤسسات على أساس المواطنة، بل على أساس الولاء الطائفي أو الشخصي.

وخاتمة القول ان هذا الفسيفساء الـهشّ  لا يمكن ان يُبنى عليه مشروع دولة إذا تمت المواجهات بين المكونات في هذه العقلية التصادمية العدائية التي تستذكر قصص وروايات وثائر يمتد لمئات بل إلى الاف السنين واستحضارها الحالي كاسترجاع لكارامات اكل عليها الدهر وشرب .

حقيقة بلاد الشام اليوم تقف أمام تحدٍ وجودي. فبعد قرن من استقلال دولها، لا تزال تعاني من انقسامات عميقة. الفسيفساء البشري الذي كان يمكن أن يكون مصدر غنى، تحوّل إلى مصدر صراع.

التجانس ليس شرطًا لنجاح الدول، لكن غياب مشروع وطني جامع، مع إرث من القهر والتهميش والتدخلات الخارجية، جعل من اللا تجانس البنيوي أزمة حقيقية تمنع قيام أي نموذج ناجح للدولة الحديثة.

إن إعادة بناء بلاد الشام لا تكون فقط بإصلاح الاقتصاد أو إيقاف الحروب، بل أولاً بإعادة تعريف العقد الاجتماعي، والتأسيس لدولة تنتمي لكل أبنائها، لا لطائفة أو أسرة أو مذهب.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى