الفيل تحت السجّادة: الطائفيّة في سوريا (يزن الحاج)
يزن الحاج
تتضمّن اللغة الإنكليزيّة اصطلاحات طريفة ودقيقة، مثل «الفيل في الغرفة» أو «إخفاء القمامة تحت السجّادة»، للتعبير عن تجاهل قضية كبيرة بمجرد ادّعاء عدم رؤيتها، أو إخفائها بطريقة ساذجة. وتُتيح لنا اصطلاحات كهذه توصيف المسألة الطائفية في سوريا التي تأججت في العام الأخير، خصوصاً، من الانتفاضة/ الحرب.
ومهما يكن مدى الاختلاف في الاصطلاح الذي سيرضى به كل من طرفي النزاع، سيتفقان حتماً في نهاية المطاف على أن «الغرفة السورية» خالية من الفيلة، سواء فوق السجّادة أو تحتها، وبأن الطائفية حالة عابرة ستنتهي بانتهاء الحرب وعلى طاولة حوار سويسريّة. أو ربما سيعمدان إلى إلصاق عار الطائفيّة بالعنصر الغريب «الطارئ»، أي الجهاديين الأجانب، وبأن «داعش» هي سبب المشكلة وحلها في آن، وبأن هؤلاء «الأغيار» سيعودون إلى بلادهم متأبطين بضاعتهم الطائفيّة التي لم تجد تربة خصبة لإنمائها. ولكن الواقع ينفي هذه الفكرة، بل ينسفها تماماً، إذ لم تعد الطائفية (إذا ما افترضنا جدلاً بأنها لم تكن موجودة قبل الانتفاضة) مجرد لطخة تتلاشى بمزيل بقع من جنيف، بل يحتاج الأمر إلى ما هو أكثر من طاولة حوار وابتسامات دبلوماسية ومصافحات بين «الإخوة الأعداء».
بإمكان أي زائر لدمشق أن يرسم ملامح الواقع السياسي، بل بعض تنبؤات المستقبل، من خلال جولة سريعة على محتويات البسطات الأكثر شهرة وشعبية في العاصمة؛ أي بسطات شارع الثورة، وجسر الرئيس وكراج السومرية. كانت الكتب، في التسعينيات، هي السلعة الأكثر مبيعاً على البسطات؛ ثم تنوعت السلع بتقدم السنوات لتشمل كل شيء، ابتداء بالتبغ والمعسّل والخمور، وصولاً إلى الشامبو المزوّر المصنّع في معامل حلب، مروراً بعلاقات المفاتيح والساعات والثياب المهربة.
وكان كتابا «حصن المسلم» و«لا تحزن» في سنوات التقارب السعوديّ/ السوريّ (كمثالين «هادئين» عن أكوام الكتب الوهّابيّة التي اجتاحت سوريا)، موجودين على واجهات أكبر المكتبات الدمشقية، وفي أغلب المنازل، إلى جانب كتب إبراهيم الفقي ومنشورات دار التقدّم المنسيّة. وبعد اندلاع الانتفاضة، كان بإمكان الزائر ملاحظة أن تلك الكتب لم تختف من الأسواق، بل أبقتها السلطات في خانة «اللامسموح _ اللاممنوع»، لتجاور العلَم السوريّ الذي بات «السلعة» الأساسيّة، وبيع منه كميات ضخمة طوال الأشهر الأولى للانتفاضة قبل بداية التسلّح. ومع الانغماس التدريجي في فوضى السلاح، والانقسام الذي أصبح أكثر وضوحاً بين السوريين، انقلبت محتويات البسطات لتصبح شبه مختصة ببيع الرموز الطائفية التي كانت، إلى فترة قريبة، «محرّمة» في المجالين السياسي والاجتماعي، مثل سيوف «ذو الفقار» والنجمة الدرزيّة ذات الألوان الخمسة والصّلبان والعبارات الشيعية المرافقة لعلم حزب الله. وبالمقابل، كانت الصبغة السنية الجهادية هي المسيطرة في «المناطق المحررة»، إذ كشفت لنا الصور والفيديوهات أن المناهج الدراسية المعتمدة جرى استيرادها من مجاهدي ليبيا، وتلاشت كل الأعلام لتبقى راية «داعش» وفتاواها اليومية.
كان الوضع الفعليّ على الأرض متناقضاً مع مضمون وسائل الإعلام عند الطرفين. فشعار «التعايش» الذي يتكرر يومياً في الإعلام الرسمي، يقابله الشعار الساذج «الشعب السوري واحد» في إعلام المعارضة، لم يكونا سوى واجهة «نظيفة» يحاول من خلالها كل طرف إقناع مناصريه وأبلسة مناوئيه، فيما كان الانقسام الميداني قد ابتعد عن كونه «حرباً على الإرهاب»، أو «مقاومة شعبية»، ليصبح صيغة أكثر وضوحاً من الصراع السني _ الشيعي في المنطقة، هي صيغة صراع سني _ علوي كان السوريون قد عملوا لعقود على إخفائها، ولم يتجرأوا على طرحها صراحة، إما خوفاً من بطش الأحكام العرفية التي تختلق تهماً ضبابية لمعارضيها، أو كمحاولة بائسة للتهرب من المشكلة عبر تجاهلها. وبينما كانت السلطة مشغولة في تثبيت أركانها، والمعارضة مندفعة إلى إسقاط النظام دون الاستناد إلى أي برنامج واقعي، كان الانقسام بين طرف سني وآخر علوي قد تكرّس كأمر واقع.
وما زاد الأمر تعقيداً هو ظهور ما يمكن تسميته «المزاودة الأقلوية»، أي محاولة أعضاء «الجماعات الغريبة» في كل طرف إبداء حسن النية، بل والمزاودة، من خلال تثبيت الطابع الطائفي للصراع؛ وبدأت «ردة» معظم مثقفي المعارضة من اليسار والعلمانية إلى محاولة إيجاد أساس سنيّ للبناء عليه في المعركة المناهضة للسلطة، ولا سيما من «مثقفي الأقليات» أو «المثقفين العلمانيّين» (الذين بدأت انقلاباتهم الفكريّة أواخر التسعينيات)؛ بينما كان رد الفعل المعاكس من أبناء المدن «السنية» في مؤسسات الدولة، وفي القوات المسلحة خصوصاً، هو محاولة خلق هوية جديدة تنسف السنية المفترضة لديهم، وتقربهم من «النظام العلوي»، ولم يعد أمراً غريباً ملاحظة انتشار «الخلعات الخضراء» أو وشم وجه الإمام علي على أذرع العسكريين وأفراد «جيش الدفاع الوطني»، الأمر الذي كان ممنوعاً على أفراد الجيش وفقاً لقرار عسكري لا يزال مفعوله سارياً حتى الآن، ولو بشكل نظري. وعوضاً عن «تثبيت» نسبة انتشار الطائفية، أو تطويقها بعد تفجرها للمرة الأولى بعد مجزرة جسر الشغور، وحالات القتل والخطف على الهوية في مدينة حمص عام 2011، تسبّب هذا الانقسام بـ«تصدير الطائفية» من المدن ذات الاحتكاكات الطائفية (المثلث الممتد من حمص إلى إدلب ومنها إلى مدن الساحل)، إلى المدن ذات «المكون الطائفي» الواحد أو مدن الكتل السكانية الكبرى، التي لم تكن تعاني من وجود مشكلة طائفية أساساً بسبب انتفاء وجود «طرف آخر» لشيطنته. ولكن الاستقطاب السني _ العلوي المتفجر تدريجاً ساهم في إدخال عناصر جديدة في تلك المدن، حتى بات ظهور خطاب «عشائري طائفي» أو حتى «كردي طائفي»، أو حالات انتقام طائفيّة فرديّة (حتى الآن)، أمراً اعتيادياً، طالما أنّ هذا الخطاب الجديد سيكون فرصة لاغتنام مكاسب سياسية أو فيدرالية، بالرغم من عدم وجود تاريخ طائفي واضح لدى هذين الطرفين، ولدى الأكراد بشكل خاص الذين يمتازون بخلفية شبه علمانية ليس للطائفة فيها حضور قوي إذا ما قورن بالعنصر الطبقي أو القومي.
وتسبّبت اصطلاحات جديدة لاقت رواجاً كبيراً في الفترة الأخيرة، بعد إطلاقها من كتّاب متلبرلين في مقالات وتصريحات عديدة، بولادة «صراع فرعيّ» جديد يمكن تسميته «صراع المظلوميّات»، وخاصة بعد تأسيس «الدولة الإسلاميّة» (داعش)، والتدخل الأخير لحزب الله في القصير. وبات من الرائج قراءة مصطلح «المظلوميّة السنيّة» في الكتابات الأخيرة لمعظم «رموز» المعارضة، كاصطلاح يؤدي غرضين أساسيّين: الأول، هو الرد على «حماية المراقد الشيعية» التي كانت أحد الأسباب المعلنة لدخول حزب الله في الصراع السوري؛ والثاني (الأهم)، هو للدلالة على «الظلم الذي طال الأكثرية السنية» خلال حكم حزب البعث منذ عام 1963، بحسب رأيهم. وسيكون من الساذج اعتبار أن «صراع المظلوميات» هذا قد اقتصر على الساحة الفكرية، إذ وجد آذاناً صاغية لدى شريحة كبيرة من المثقفين والناس الاعتياديين في آن، في تربة كانت مهيّأة أساساً لامتصاص تنويعات جديدة للاستقطاب الطائفي، بسبب الدلالات الدينية التي أغرقت الكتائب المقاتلة من أسمائها إلى ممارساتها، والتحريض الإعلامي الديني على مدار الساعة، عدا عن تزايد حدة القصف الذي طال مدناً جديدة لم تكن مصنّفة ضمن «المدن الثائرة».
وفي ظل استقطاب كهذا، لن يكون من المبالغة التنبؤ بغد طائفيّ سوري تتلاشى فيه العناصر السياسية والاقتصادية للصراع تدريجاً، مبقية على البعد الطائفي فحسب. وبعد انعقاد مؤتمر «جنيف 2»، الذي سيكون قشة النجاة الأخيرة للحل السياسي، ستبدأ مرحلة إعادة الإعمار التي ستتضمن بالضرورة أجندات اقتصادية نيوليبرالية كانت سوريا قد عايشتها بدرجة طفيفة بين عامي 2005 ــ 2010 قبل اندلاع الانتفاضة، ما سيؤدي إلى إنعاش استقطاب طبقي كان ملحوظاً في الأشهر الأولى من الانتفاضة، قبل أن تغرقه فوضى السلاح والتدخلات الدولية. وغني عن القول إن نسف الطائفية لا يكون بمؤتمر سياسي أو قرار سلطوي، بل يستلزم «عقداً اجتماعياً» جديداً عابراً للطوائف، يتم فيه تحويل هوية الصراع من الطائفيّة إلى الوطنيّة. وبما أن تحويلاً هائلاً كهذا لا يمكن أن يتم إلا على مراحل انتقالية تدريجية، لا يمكن التفكير بحل جذري يخدم هذا الانتقال سوى الحل العابر للطوائف الذي سيكون اقتصادياً بالضرورة، وستكون فيه مرحلة إعادة الإعمار خطوة أساسية في إعادة الطابع الطبقيّ للحياة السورية.
وبدلاً من العودة إلى سيناريو إخفاء الطائفية «تحت السجادة» كحل سلطوي عايشته سوريا طوال عقود، أو الاستمرار في دوامة العنف الطائفي إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه، سيكون التأسيس لطبقة عابرة للطوائف هو الحل الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وصولاً إلى المربع الأول من إعادة الهوية الوطنية في الصراع السياسي. ولن يقودنا أي تفكير آخر سوى إلى الخضوع لأجندات إعادة الإعمار النيوليبرالية التي ستؤسس طبقتها الخاصة من التجار ورجال الأعمال، والتي ستكون هي الطبقة الوحيدة العابرة للطوائف في مجتمع تنخره الطائفية. وحينئذ سنكون أمام بنية جديدة من الصراع بين طرفين، الأول هو الطبقة الحاكمة الجديدة الموحّدة والعابرة للطوائف، فيما الثاني هو الأغلبية الحقيقية الغارقة في الجهل والفقر والحروب الصغيرة الزائفة.