القاعدة في سوريا… تشكيل جيش النصرة (سمير حمادي)
سمير حمادي
جاء "الربيع العربي" وتنظيم القاعدة بواجه تحديات صعبة في الحفاظ على وجوده ومتابعة أهدافه الاستراتيجية، وتكشف وثائق "ابوت آباد" التي تم الحصول عليهامن منزل أسامة بن لادن بعد مقتله في مايو(أيار) 2011 كثيراًمن المعطيات حول الأوضاع الداخلية للتنظيم في السنوات الثلاث الأخيرة، وكيف أن أكابره كانوا يعرفون أن الجماهير فقدت الثقة في "القاعدة" بسبب الأخطاء الفادحة التي ارتكبها "القاعديون" فيأكثر من مكان، وأنه (أي بن لادن) يخطط لاستعادتها ببيانات مطمئنة تمد مجدداً "خطوط التواصل بين المجاهدين وأمتهم"، كما تكشف أن بن لادن نفسه، وبقدر كبيرمن التواضع، اعترف في إحدى رسائله بحالة الضعف التي آلت إليها قاعدته.
فالقوم (أي أمريكا) مسهم قرح مثلما مس "القاعديين"، "فكما ينالونمنا ننالمنهم". وفي هذا السياق، كانت التوقعات المنطقية تسير في اتجاه أن تغطي ثورات الشعوب العربية على حركة القاعدة، وتضاعفمن غيابها، خصوصاً أن مجرياتها لم توفر للجهاديين فرصاً مهمة للدخول على الخط، وإضافة لمساتهم الخاصة إلى مشهدها الطاغي، بيد أن الثورةالسورية التي أخرجتها تقلبات أحداثها عن مألوف الثورات العربية أوجدت،من حيث لم يحتسب أحد، هذه الفرصة.
لقد كانتالحالة السورية أكثر عرضة للاستغلال من قبل القاعدة لأنها مثلت بتطوراتها النوعية الصيغة القصوى لمظاهر الفوضى التي يحتاجها ويبحث عنها الجهاديون دائماً ليستطيعوا وضع أقدامهم على الأرض بثبات والضرب بقوة في الاتجاهات كلها، ومن ثم فرض جدول أعمالهم على الجميع (استحضار تاريخ التدخلات الجهادية "القاعدية" مفيد في هذا السياق، وتبدوالحالة العراقية النموذج الأقرب)، وكلما سارت الأوضاع نحو مزيدمن التعقيد والتأزم سياسياً وميدانياً، يصبح الحضور الجهادي بين ثنايا ثورتهاأكثر كثافة ونفوذاً وخطورة.
لقد بدأت التحركات الجهادية الأولى في سوريا، بعد وقت قصير،من اندلاع ثورتها في مارس(آذار) 2011، أول هذه التحركات تم رصده أواخر يوليو في المناطق الشمالية، خصوصاً في محيط مدينة حلب، ثم اتسع نطاقها جغرافيا، فأخذ بعض الجهاديين في تشكيل تجمعات جهادية خاصة بهم، لكنها لم تكنمنظمة وفاعلة بما يكفي، وفي أواخر السنة تجمع في حمص عددمن السوريين الذين راكموا تجارب جهادية سابقة في أفغانستان والشيشان والعراق وأسسوا تنظيماً جهادياً باسم "جبهة النصرة لأهل الشام"، وفي 24 يناير(كانون الثاني) 2012 أعلنت الجبهة عن نفسها رسمياً، وذلك عبر شريط مرئي نشر في الإنترنت.
فتعالت أصوات النداء لأهل الجهاد، فما كانمنا إلا أن نلبي النداء ونعود لأهلنا وأرضنامن الشهور الأولى لاندلاع الثورة، ولعله قد فات بشار وماهر أن زمان استضعاف المسلمين قد ولى واندثر، وعاد للأمة الإسلامية سيفها البتار الذي يحول بينها وبين الطغاة الظالمين، يذود عن أعراضه ويصون دماءهم ويحفظ أموالهم.
لذا فإننا نبشر الأمة الإسلامية بالحدث التاريخي المنتظر بتشكيل جبهة لنصرة أهل الشاممن مجاهدي الشام في ساحات الجهاد، سعياًمنا لإعادة سلطان الله إلى أرضه، وأن نثأر للعرض المنتهك والدم النازف ونرد البسمة للأطفال الرضع والنساء الرمل… فعلى أهل الشام أن يلتفوا حول راية لا إله إلا الله، فإنما يُرفع بها الذل والهوان ويسود العدل ويُسحق الظلم… إن ما على أهل الشام أن يدركوه أن هذا النظام لا يزول إلا بقوة الله ثم بقوة السلاح، فإن حمل السلاح لأهل الشام ليس مشينة يعابون عليها، إما المشينة أن تُحكم فينا شريعة الغاب لا شريعة الله ونحن ننظر…".
لم يمر وقت طويل حتى أصبحت جبهة النصرة التنظيم العسكري الأوسع انتشاراً في سوريا، وقد توفر لهامن الإمكانيات المادية واللوجستية ما ساعدها على اكتساب سمعة قوية على المستويين المحلي والدولي بالنظر إلى فعاليتها وقدرتها على إلحاق أضرار فادحة بالنظاممن خلال عملياتها النوعية التي تستهدف مرافقه الحيوية وهو الأمر الذي أحدث تحولاً استراتيجياً في مسار الصراع.
من جهة أخرى، اكتسبت الجبهة شرعيتهامن نداءات الجهاد التي أصدرها أمير القاعدة الجديد أيمن الظواهري، فضلاً عن حصولها على تزكية عددمن المنظرين الجهاديين المعتبرين (هاني السباعي، أبو محمد الطحاوي، أبو المنذر الشنقيطي، أبو سعد العاملي… أما أبو بصير الطرطوسي، وهو في الأصل سوري، فقد كان موقفهمنها سلبياً لأنها بحسب رأيه غير معلومة الأمير والراية)، فاشتدت شوكتها وتزايد نفوذها، خاصة مع تمادي النظام في ممارساته المفرطة في العنف / القمع المنهجي التي لا توفر أحداً ولا تقيم وزناً لأي اعتبارات دينية أو أخلاقية أو قانونية.
هذا ونشير إلى أن نشاط جبهة النصرة لا ينحصر في الجانب القتالي / العسكري، بل امتد ليشمل تقديم خدمات عامة في المناطق التي تقع تحت سيطرتها. فمثلاً، في دير الزور المحاذية للعراق، التي باتت تتحكم في أجزاء كبيرةمنها، قامت الجبهة بالتنسيق مع زعماء القبائل للحفاظ على النظام وتطبيق القانون في غياب سلطة الدولة، كما أنشأت محاكم شرعية يتولى بعض مقاتليهامن ذوي الخلفية الدينية والإلمام بالعلوم الشرعية إدارتها والفصل في النزاعات القائمة.
ومع أن جبهة النصرة استقطبتمنذ الإعلان عن نفسها اهتماماً إعلاميا كبيراً، باعتبارها مكوناً رئيسياًمن مكونات الثورةالسورية، إلا أنها ما تزال تنظيما غامضاً لا يُعرف الكثير عن إطاره المنهجي وبنيته التنظيمية وحدود قدراته ومصادر تمويله ونظام تجنيد أفراده وتوزيعهم الميداني، فمثلاً، هناك تضارب في الروايات حول عدد أفراد الجبهة، فبحسب التقديرات التي قدمتها صحيفة "الواشنطن بوست".
يشكل هؤلاءمن 7.5 إلى 9 في المائةمن مجموع الجيش السوري الحر، أي ما بين ستة إلى عشرة آلاف جهادياً، وبحسب تسريبات وزارة الخارجية الأمريكية، فإن توزيع الأعداد هو كما يلي: 2000 جهادياًمن أصل 15 ألف مقاتلاًمن الجيش الحر في حلب،من 2500 إلى 3000 جهادياً، أي حوالي 10 في المائةمن عناصر الجيش الحر في إدلب، 2000 جهادياًمن مجموع 17 ألف مقاتلاًمن الجيش الحر في دير الزور، ما بين 750 و 1000 جهادياً في دمشق، ومثل هذا العدد يتوزع بين درعا وحمص وقرى اللاذقية.
بيد أن ما هو مؤكد في الوقت الراهن أن عناصر الجبهة ليسوا كلهممن السوريين، بل إن عدداًمنهم ينتمون إلى جنسيات عربية مختلفة، إضافة إلى جنسيات غير عربيةمن الشيشان وتركيا وباكستان وطاجاكستان تسللوا إلى سوريا عبر الحدود التركية خصوصاً، وهؤلاء (أي غير العرب) شكلوا مجموعة خاصة بهم في حلب اسمها "المهاجرون" يقودها أبو عمر الشيشاني. أما المهاجرون العربمن دول الجوار (الأردن ولبنان والعراق) ودول عربية أخرى (ليبيا والسعودية واليمن وتونس تحديداً).