المجتمع المدني: رؤية ليست بريئة
هل هناك ضرورة لوجود المجتمع المدني؟ وما هو الدَّور الذي يمكن أن يقوم به أو يؤدّيه على صعيد الداخل والخارج؟ ثمّ هل الاحتجاج هو وسيلته الأساسيّة لتحقيق أهدافه أم ثمّة وسائل أخرى يمكن أن يعتمدها؟ وإذا كان الاحتجاج إحدى الوسائل، فما هو دَور الرَّصد والرقابة ليتحوّل المجتمع المدني إلى قوّة اقتراح وشريك للدولة، ومُتمّم لها ومكمّل لعملها ومنفّذ لخططها ومشروعاتها، وخصوصاً عندما يُسهِم في تقديم مشروعات قوانين وخطط عمل ولوائح وأنظمة لتعزيز المشاركة المجتمعية في التنمية بمختلف جوانبها؟
إذا كان مثل هذا الفضاء هو الذي يعمل تحته المجتمع المدني، فلماذا إذاً تغتاظ منه بعض الأوساط الحكومية والرسمية؟ وكيف السبيل لردم الهوّة بينهما وتجسير الفجوة، بحيث يمكن تحقيق نَوع من التكامل والتّواصل والتّفاعل بين ما تقوم به الدّولة وما يوكَل إلى المجتمع المدني القيام به؟ أي أن يقوم المجتمع المدني بما لا تستطيع الدَّولة القيام به، بحيث يؤدّي كلٌّ منهما واجبه بما يعزّز المسيرة الوطنية ويخدم الإنسان وحقوقه، باعتبار ذلك هدفاً أساسياً لأيّ نظام اجتماعي أو دين أو فلسفة أو فعاليّة سياسية أو نشاط اقتصادي أو ثقافي.
يُمكنني أن أقرأ حساسية الحكومات من بعض منظّمات المجتمع المدني من خلال الأسباب التالية: أوّلها أنّ بعضها يتلقّى تمويلاً أو مساعدات خارجية من جهات أجنبية، وبالتالي يمكن أن يوظّف لمصلحة تلك الجهات وأجنداتها الخاصّة، وثانيها أنّ بعض منظّمات المجتمع المدني هو جزء من اللّعبة السياسية، وهو واجهة لهذه الجماعة أو تلك، سياسياً أو عقائدياً أو دينياً أو إثنياً أو طائفياً أو غير ذلك، وبالتالي فإنّها منظّمات غير مستقلّة، وثالثها أنّها منظّمات غير محايدة وغير موضوعية في ما يتعلّق بالصراع ما بين السلطة والمُعارضة، فتراها تنحاز في غالب الأحيان لمصلحة المعارضات، ورابعها أنّها منافس للحكومات، وتريد الوصول إلى السلطة، بعد فشل الأحزاب السياسية، وهكذا فإنّ الحكومات تخشى من ديناميّتها الحركيّة، مثلما تخشى منها بعض الحركات السياسية التي تشعر أنّها مُنافِسٌ لها أو بديلٌ منها.
وإذا كان جزء من هذه الأطروحات صحيحاً ويشمل بعض المنظّمات، إلاّ أنّه لا يمكن التعميم؛ فالعبرة في الغالب الشائع، وليس في النادر الضائع كما يُقال، ولهذا ينبغي وضع الأمور في سياقات منطقية، أي أنّ وجود المجتمع المدني ضرورة لا غنى عنها للمُشارَكة في عملية التنمية، باعتباره قطاعاً ثالثاً مع القطاع العامّ “الحكومي” والقطاع الخاصّ “أصحاب الأعمال”، ولا يمكن بلوغ التنمية المُستدامَة من دون مشاركته الفاعلة.
ثمّة اشتراطات حكوميّة على عمل المجتمع المدني من خلال ضوابط قانونية ومهنيّة، مثلما هناك اشتراطات من جانب المجتمع المدني هو الآخر على نفسه، من حيث مواصفاته ودَوره وأهدافه ووسائله، إذْ لا قيمة لغايةٍ شريفة يتمّ الوصول إليها بوسيلة رذيلة؛ فالغاية والوسيلة، هما مثل الشّجرة والبذرة لا يمكن فصلهما، بحسب المهاتما غاندي، فيلسوف المقاوَمة المدنيّة، السلميّة، اللاّعنفيّة.
وبقدر ما ثمّة مشتركات وأهداف تجمع المجتمع المدني العربي، من حيث الوظيفة والدَّور والأداء، ثمّة بعض الخصوصيّات لكلّ بلد عربي، لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار، وهي تتعلّق باختلاف درجة التطوّر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتاريخي. ومع ذلك، تجتمع مفاهيم مشتركة تحت هذا المصطلح، من قبيل أنّ المجتمع المدني طَوعيّ وغير سياسيّ، حتّى وإن ناقش في أخطر القضايا السياسية، لكنّه لا ينخرط في الصِّراع الإيديولوجي، ويضع مسافة بينه وبين السلطات والمعارضات، كما أنّه يعتمد على أساليب عمل سلمية وديمقراطية في إدارته وتداول المسؤوليّات بين هيئاته بانتخابات دَورية ولا يلتجىء إلى العنف بتاتاً أو إلى العمل السرّي، وغير ذلك.
في المبادرات الكبرى
النَّظرة السلبيّة والمُبتسرة للحكومات العربيّة إلى المجتمع المدني لا تزال مستمرّة، وهناك الكثير من التحفّظات على بعض أنشطته، بل إنّ بعض منظّماته غير مرخّص لها لممارسة العمل القانوني، وعلى أحسن الأحوال، فإنّ الحكومات لا تأخذ المجتمع المدني على محمل الجدّ، الأمر الذي يعني أنّها غير مُقدِّرة للدَّور الذي يمكن أن يلعبه على الصعيدَيْن الداخلي والخارجي، ما ضاعف من التباعد بينهما. ولكنْ، لنحتكم موضوعياً إلى بعض الأدوار والمواقف التي قام بها، فنسلّط الضوء على ثلاث مبادرات كبرى لها امتدادات دوليّة لعب فيها المجتمع المدني العربي دَوراً ريادياً:
المُبادرة الأولى هي الوساطة التي قام بها المجتمع المدني التونسي ممثَّلاً بالاتّحاد العامّ التونسي للشغل، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والاتّحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيّين، وبعد جهد جهيد وصبر ودأب وإقناع، تمّ نزع فتيل الأزمة، عبر الحوار والتفاهم بعدما كادت البلاد تغرق بفوضى وعنف غير محمود العواقب، ونال المجتمع المدني التونسي بسبب تلك المبادرة الناجحة جائزة نوبل في العام 2015، وهي تُمنح لهذا القطاع للمرّة الأولى في تاريخها.
المبادرة الثانية هي مساهمة المجتمع المدني العربي في تحفيز المُطالَبة العالمية للمجتمع المدني الدولي برفض الحرب على العراق والتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني وانتفاضته الثانية التي انطلقت في العام 2000 واستمرّت حتّى عشيّة الحرب على العراق في العام 2003، حيث اندلعت تظاهرات بنحو 400 مدينة كبرى في العالَم. وعلى الرّغم من أنّها لم تتمكّن من وقف الحرب على العراق أو إجبار “إسرائيل” على الاعتراف بحقوق الشعب العربي الفلسطيني، إلّا أنّها أسَّست لأرضية تضامن عالَمي جديد بخصوص قضايا الشعوب العادِلة.
أمّا المُبادرة الثالثة، فتمثَّلت في نشاط المجتمع المدني في مؤتمر ديربن (أغسطس/ آب – سبتمبر/ أيلول 2001)، الذي حضرته نحو 3000 منظّمة دوليّة، حيث تمكّن بقرار من غالبيّتها الساحقة إدانة دولة “إسرائيل” وممارساتها العنصرية ضدّ عرب فلسطين. ويُذكِّر هذا القرار الأممّي بالقرار رقم 3379 الخاصّ، باعتبار الصهيونية “شكلاً من أشكال العنصريّة والتمييز العنصري” والذي صدر في العام 1975، وللأسف فقد تمّ إلغاؤه في العام 1991 إثر اختلال موازين القوى الدّولية وتصدّع الـتّضامن العربي.
وإذا كان هذا بعضاً من مبادرات المجتمع المدني العربي، فإنّ ما ينتظره اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، هو وضع استراتيجيّات لمُكافَحة التعصّب والتطرّف اللّذَيْن يُشكّلان الخلفية النظرية للإرهاب، وخصوصاً بانتقالهما من الفكرة إلى الممارسة؛ وبالطّبع، فإنّ هذه الظاهرة استفحلت في ظلّ الاستلابات الخارجية ومحاولات فرض الاستتباع من جهة، وتفشّي الطائفية والانقسامات التي سبَّبتها في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة من جهة أخرى، نتيجة شحّ الوعي بشكل عامّ، والوعي الدينيّ والحقوقيّ بشكل خاصّ.
ويحتاج الأمر إلى مراجعة جادّة وقراءة انتقادية ومسؤولة لتقديم رؤية جديدة للمجتمع المدني العربي من الداخل، ليس بالرضا عن النَّفس والتقديس والتأييد، وليس بجلد الذّات أو التدنيس أو التنديد، بل من خلال رؤية تحاوِل مُقارَبة الواقع لمعرفته ودراسته والتوصّل إلى حلول ومعالجات تساعد في إطفاء الحرائق المُشتعِلة، وإخماد الفِتن النائمة والمستيقِظة التي تُنذِر بأوْخَم العواقب، ولاسيّما بتقسيم البلاد وتفتيت العباد.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)