المرأة والزواج في التشريع الحمورابيّ
تَذكر كتبُ التاريخ القديم المختصّة بمنطقتنا، أنّ أوّل مَن تكلّم على سيادة العرب على العراق، كان كاهناً كلدانيّاً يدعى بروسوس، من أهل القرن الرابع قبل الميلاد، وقد عاصر الإسكندر المقدونيّ وبعضاً ممَّن خلفه في أعلى هرم السلطة. كما كان في طليعة المؤشّرين على أنّ عدد ملوك دول العرب القدامى تسعة، وأنّ سنيّ حُكمهم هي 245 سنة؛ أتت بعدهم دولة الكلدانيّين، وانتهت بدولة الآشوريّين. وقد أَجمع المؤرّخون على أنّ دولة العرب الأولى في العراق هي الدولة البابليّة الأولى أو دولة حمورابي إيّاه (1810 ق.م. – 1750 ق.م.) سادس ملوك بابل وأكبرهم شأواً وحِكمة، وقد حَكَمَ من العام 1792 ق.م. إلى العام 1750 ق.م. وهو صاحب أقدم مدوّنات الشريعة والقانون في العالَم، وقد ذاع صيتها تحت اسم “شريعة حمورابي”.
في ميزان تحضُّر الأُمم والشعوب، عرفت دولة حمورابي تمدُّناً ورقيّاً اجتماعيّاً مبكّراً، ورثته في حقيقة الأمر عن الدولة السومريّة التي كان قد فَتَحَ أركانَها وأركانَ غيرها من المَمالك المحيطة، حمورابي نفسُه، ولُقّب في ما بعد بـ “ملك بابل وسومر”. وقد استخدم الحمورابيّون في بدء مرحلة دولتهم اللّغة السومريّة في مُداولاتهم ومُراسلاتهم، ثمّ تخلّوا عن هذه اللّغة شيئاً فشيئاً حتّى انقرضت تقريباً، وانقرض معها العنصر السومري، وبقي العنصر السامي، تماماً كما تغلّب العنصر العربي في مصر والشام بعد الإسلام بتغلّب اللّغة العربيّة على ما عداها. على أنّ الحمورابيّين كانوا قد احتفظوا بالخطّ السومري، ليستخدموه في تدوين لسانهم وزادوا عليه أحرفاً لم تكُن في أصل اللّغة السومريّة.
كان القوم في زمن الدولة البابليّة الحمورابيّة يتوزّعون على ثلاث طبقات: الأحرار، العبيد والموالي.. والأخيرة، هي الطبقة التي ينتمي إليها الأفراد الأرفع من العبيد، والأدنى من الأحرار. على أنّ المولى قد يتزوّج من بنات الأحرار، ولكن تظلّ منزلته الاجتماعيّة أدنى من الفرد الحرّ، ولا يخوّله زواجه بأن يتمتّع بأيّ درجة من درجات الرقيّ الاجتماعي، وخصوصاً في نظر السادة والقضاة في البلاد.
غير أنّه، ووفق شريعة حمورابي، يُمكن للعبيد أن يتزوّجوا من نساء الأحرار زيجةً شرعيّة، لكن في إطارٍ خاصّ بعبيد القصر المَلكيّ أو من يدور في فلكهم ليس إلّا. وفي كلّ الأحوال، وبحسب المعلومات التاريخيّة، فإنّ الزواج عند البابليّين لا يُعتبر نافِذاً، إلّا بعقْدٍ مُسجَّل رسميّاً في دوائرهم الحكوميّة، شأنهم في ذلك شأن أرقى الأُمم المُتمدّنة اليوم، وحقوق الزواج مكفولة للطرفَيْن: المرأة والرجل. وعلى المرأة/ الزوجة أن تظلّ مُخلصة لزوجها مدى الحياة، والعكس صحيح بالنسبة إلى الرجل/ الزوج.
ومن هنا كانت عقوبة الزنا قاطعة وصادمة للغاية: الذبح بالسيف أو الغرق بالماء، وخصوصاً بعد التأكّد النهائي من جُرمِ حدوثه. ولا تُعتبر المرأة التي تلجأ إلى كنف رجل آخر زانية عندما يكون زوجها في حالة أسر، فهي والحال كذلك، تحتاج إلى مَن يُعيلها ويتدبّر شؤونها؛ وعليه يكون من الطبيعي انتقالها إلى بَيتِ الرجل المُعيل، والعَيش معه عيشة الزوجَيْن العاديَّين. وفي حال عودة الزوج/ الأصيل من الأسر، تنتقل الزوجة إليه فوراً، وليس للزوج/ الأصيل أن يعترض على ما كانت فعلته زوجته، وكلّه بموجب القانون. وفي حال كانت الزوجة قد أَنجبت أولاداً من غير زوجها الأصيل، يحقّ لها، في القانون، أن تتركهم له.
أمّا إذا كان غياب الزوج ناتجاً عن فرارٍ من الحرب، أو من الواجب الوطني، وعاد إلى زوجته، فإنّ القانون يسمح للزوجة بألّا تعود إليه مطلقاً؛ وإذا ما غَصَبها بالقوّة والإكراه على العودة، فإنّ القانون ينال منه بأقصى العقوبات المفروضة.
ومن شروط الزواج في الزمن الحمورابي أن يُقدّم الرجلُ للفتاة مالاً على سبيل المَهر (الدوطة) يُتَّفق بشأنه مع والدَيها. والفتاة لا تخرج من بَيت أهلها إلى بيت الزوجيّة، إلّا بعد أن يكون حقّها كعروس قد تأمَّن في حَوزتها أو في حوزة ذويها.. لا فرق. والمهر أو “حقّ العروس” هو على الدوام من حقّ المرأة. وحتّى إذا لم تتزوّج الفتاة، وبقيت في منزل أبيها عانساً، فإنّ مهراً ما سيظلّ ينتظرها، ومن جانب أبيها هذه المرّة، الذي هو مسؤول بالضرورة عن حفْظِ عرض ابنته من عاديّات الزمان، بخاصّة إذا ما فاتها قطار الزواج، ومَهرُ الوالدِ عادةً ما يكون “دَسِماً”، يؤهّل الابنةَ لخوْضِ غمار العمل التجاري، والمُنافَسة في الأسواق، وعقْد صفقات البيع والشراء، وكسب المال الحلال، بما يحفظ لها كرامتها واستقلالها الاقتصادي كإمرأة في وسط مجتمع ذكوري تسلّطي.
كرّس العرف الاجتماعي في زمن حكم حمورابي الزواج مرّة واحدة لكلا الزوجَين، أي أن يكون للرجل امرأةٌ شرعيّةٌ واحدة، وإذا ما تزوّج الرجل على امرأته، وهي على قَيد الحياة، وبصحّة بدنيّة ونفسيّة جيّدة، فعليه أن يتحمّل تبعات دعاوى التظلُّم المفتوح عليه من زوجته الشرعيّة، وبالقانون الذي ينحاز إليها في كلّ حالات الشكاوى المُقدَّمة. وإذا ما حاول الرجل الاحتيال على زوجته بالمُراوَغة والمُناوَرة و”الغشّ القانوني”، فإنّ مَصيره السجن.
وإذا كانت المرأة لا تُنجب، وثَبَتَ طبيّاً أنّ السبب منها، لا من زوجها، فإنّه يحقّ للزوج التخلّي عنها بموجب القانون، وكذلك يُمكن للمرأة العاقر أن تتزوّج، وبموجب القانون أيضاً، من رجل عاقر أو رجل طبيعي، شريطة إبداء هذا الأخير الرضا بحالها وبواقعها، ولكن تلك حالات نادرة في المُجتمع البابلي الرافديني القديم.
هكذا، فالزواج كان مُنظَّماً جدّاً عند البابليّين، ومؤسّسته قويّة صامدة، وتدخل في صلب العمليّة القانونيّة المُتعلّقة بالأحوال الشخصيّة لشريعة حمورابي. كما أنّ حقوق الزوجَين المُتبادَلة وواجباتهما المُشترَكة في المرحلة البابليّة الحمورابيّة، تشبه إلى حدٍّ ما صورة نظيراتها الحقوقيّة والاجتماعيّة في عالَمنا المُعاصِر. يقول جرجي زيدان في كِتابه: “العرب قبل الإسلام”: “والزواج وثيق العرى عند البابليّين، فإنّ الزوجَين حقوقهما مُتبادَلة، وواجباتهما مُشترَكة، وكلٌّ منهما مسؤولٌ عن الآخر، حتّى في الحقوق المدنيّة. فإذا كان على أحدهما دَين، فالآخر مسؤول عنه. فإذا تأخَّر الرجل عن وفاءِ دَيْنٍ عليه، قبض الدائن على امرأته حتّى تفيه. وكذلك المرأة، إذا كانت مَدينة وعجزت عن الدفع، فالدائن يقبض على زوجها حتّى يفيه حقّه، ولو كان الدَّين قبل الزواج؛ إلّا إذا تعاهد الزوجان ألّا يسأل أحدهما عمّا على صاحبه من الدَّين قبل الاقتران. أمّا الدَّين الذي يحدث بعد الزواج، فهما مُتضامنان فيه”.
على مِسلّة ضخمة من الحَجَر الأسود
هكذا، ولكي ينجح الحاكِم في بناء دولة مُتكامِلة، على غرار دولة حمورابي، عليه أن يجمع إلى جانب تقدّمه العسكري والسياسي والعِلمي والاقتصادي والثقافي، اهتمامَه بالجانب الاجتماعي وتماسكه، بدءاً من مؤسّسة الزواج، وتنظيم العائلة، وشؤون حياتها اليوميّة والمُستقبليّة. نعم، فالعائلة هي النواة الصلبة التي كان ينطلق منها حمورابي في اتّجاه بناء المُجتمع الصلب، والذي هو أساس قيام الأمّة الصلبة في النتيجة. ولأجل ذلك، كان هو الذي يُشرف بنفسه على أحوال مُجتمعه البابلي، ويضع القوانين اللّازمة له في كلّ شأن من شؤونه الحيويّة، ويُتابع تنفيذها على أرض الواقع.
وهنا من المهمّ أن نَذكر أنّ حمورابي كان قد وضع 282 قانوناً، لم يغب عن باله فيها التشريع، حتى في التفاصيل التجاريّة اليوميّة، وعلاقاتها التفاعليّة بالداخل والخارج، ووَضع ضوابط لها؛ ومن هذه الضوابط، مثالاً لا حصراً، أنّ الدولة البابليّة كانت تتولّى بنفسها عمليّة تسعير البضائع، وتقدير أجور الصنّاع، وأرباب المِهن، وكذلك الأطبّاء الذين كانوا يدفعون ثمن أخطائهم الطبيّة الصارخة ببتْرِ أيديهم أحياناً. وكذلك بنّاء البيت الجديد، كان يُعاقب، في حال سقط البيت على صاحبه وقتله، بعقوبة القتل المُقابل؛ وإذا ما نجا صاحب البيت المهدّم من الموت، فعلى البنّاء أن يُعيد بناء البيت على حسابه بالكامل. وكذلك صانع السفن، فإذا بنى سفينة غير مُحكمة، وأصابها الخلل، فهو مسؤول عن إصلاحها.
مثل هذه القوانين والتشريعات الحمورابيّة وغيرها، حُفِرت على مسلّةٍ ضخمة من الحَجَر الأسود، يتجاوز وزنُه أربعَةَ أطنانٍ من حَجَر الديوريت المنحوت على شكل إصبع طولي، تعكس مَعالِم حضاريّة هي الأسطع بالغنى التشريعي العادل في الكثير من جوانبه، ليس على مستوى حضارة بلاد ما بين النهرَين فقط، وإنّما حضارات العالَم القديم بأسره.
في العام 1901، وبينما كان على رأس حملة تنقيب آثاريّة على بُعد 400 كلم من وسط مَملكة حمورابي، اكتشف مُهندسُ تعدينٍ فرنسيّ يُدعى جاك دي مورغان مسلّة حمورابي، وهي مكسورة على شكل ثلاث قطع، فجرى العمل على تدارُك أمرها، ونقلها بحرفيّة عالية إلى فرنسا لتُعرض بشكل دائم في متحف اللّوفر في باريس، وتكون مُتاحة لكل المُهتمّين بالكنوز الأثريّة الاستثنائيّة في تاريخ البشريّة.
*كاتبة من لبنان
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)