المستور الأكبر
كانت محاكمة كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» في حينها محاكمة العصر، ليس لأن كتاب طه حسين استنفر ردوداً وسجالات غطت على الحياة الثقافية آنذاك فحسب. وليس لأن طه حسين عميد الأدب العربي في المحكمة فحسب ولكن لأن مطالعة القاضي في ردّ الدعوى كانت توازي كتاب طه حسين بحثاً وعمقاً. لا تزال الواقعة نفسها شهيرة لكن مطالعة القاضي التي تصلح مثالاً لحرية الفكر وديموقراطية التشريع أُنسيت في جملة ما أُنسيَ. وقد عادت «أخبار الأدب» إلى نشرها فأتاحت قراءتها ورأينا فيها بعد توالي العقود هذا المثال الحيّ. يمكننا أن نبدأ من محاكمة طه حسين، رغم أنها لم تكن الأولى. لكنها كانت النموذج، وكانت، ليس فقط في وقتها، ولكن إلى الآن، نموذج اصطدام الجديد بالموروث الديني والتقليدي، وقدرة المحكمة على أن تنفذ من الشباك وعلى أن تقيم خطابها في جزء منه على معرفة معمّقة لهذا الموروث وعلى قراءة متجددة له. ليست محاكمة طه حسين في شهرة محاكمة سقراط وليست مطالعته في شهرة مطالعة سقراط، لكنها في تراثنا المثال والنموذج.
بعد ذلك تتأتى المحاكمات وتتوالى الأحكام، إعدام مفكر إسلامي إصلاحي في السودان عهد النميري، محاكمة ليلى بعلبكي، محاكمة صادق جلال العظم. ليست هذه وحدَها المحاكمات، لكنها أمثلة فحسب، في كل عام ترفض الرقابة كتباً وتحول دون أن تكون في معارض الكتاب، إنها محاكمات صامتة وأحكام فورية لا تقبل استئنافاً، في بلدان يرفض عمال المطبعة نشر كتب بعينها لأنهم يتوجّسون من أن تكون ضالة، ويترك للمؤسسات الدينية أن تفتي في صلاحية الكتب للعرض، في بلدان تعرض الكتب والمسرحيات على المؤسسات الدينية قبل السماح لها بمواجهة الجمهور. لكن ليس هذا كل المسألة، فما تحاكَم الكتب عليه هو ما لا يراعي قواعد مستورة أو ما يُشتبه بأنها لا تراعيه، وبالطبع فإن هذا ما يقع في ظنّ المفتشين الجدد وفي توجّساتهم، والحال أن طه حسين في الشعر الجاهلي لم يخرج عن الإسلام، كما رأى القاضي بحذاقة، ولكنه تصرف في قراءة النص الديني على غير الموروث السلفي. والأرجح أن أغلب ما يكتب في هذا المجال لا يواجه الدين نفسه وإنما يواجه فهماً وتقاليد، ويحتال على فهم وتقاليد. لكن قاضي طه حسين لم يعد موجوداً، والقضاة الجدد لا يتمتعون بدرايته وعلمه، ثم أن الأحكام لا تصدر عن القاضي فالمؤسسات الدينية تفتي على قدر علمها ودرايتها، وقد أحدثت في هذا المجال فواجع لا تطال الفكر وحده وإنما تتصرّف بمصائر الأشخاص، ولنا في ما حدث لنصر حامد أبو زيد مثل على ذلك، وليس نصر حامد الوحيد الذي أُجبر على الخروج من بلده، ففي ديار الإسلام نجد في كل وقت أشخاصاً يُجبَرون على الخروج من بلدانهم، ويُضطرون إلى الفرار من وجه المؤسسات وسلطانها الذي لا يتوقف عند منع الكتب.
المسألة إذن تتعدّى الوقائع الظاهرة، إذ إن المستور فيها أكبر وأوسع، وليس المذكور في الكتب هو الوحيد الممنوع، فليس في الكتب سوى القليل، وليس في الكتب عادة سوى ما يتحاشى وما يراعي وما يتحايل ويوارب، ما يراعي حقاً وما يتجنب ما يمتنع على القراءة والكتابة. وما لا يقترب منه أحد ولا يخوض فيه أحد، وما لا مجال لذكره ولا مجال لمقاربته. وما لا يُبحَث ولا يُقال ولا يُفكَّر، هو الأعظم والأفدح. هو هذا الذي يقوم عليه حراس العقيدة وهم ليسوا وحيدين في ذلك، فمن ورائهم الدولة والجمهور، إنهم سلطة وعوَّام ولهم القدرة على إخراس من لا يلتزم ومَن لا يسمع. وما يفعلونه تجاه القليل الذي يتسرّب والضئيل الذي ينفذ إنما هو من خوفهم أن يشير ذلك، ولو بالإيماء، إلى الكثير الممنوع. خوفهم أن ينفتح الطريق إلى المستور، وأن يصير هذا بين الأيدي، وأن تتداوله الكتابات والكتب وأن يصير لعبة اللاعبين، وموضوع الجميع، يخوض فيه مَن يشاء ومَن يرغب.
لعلنا لا نبالغ، إذا قلنا إن هذا المستور الممنوع المكبوت قد يشكّل الثقافة بكليتها أو أن كبته ومنعه يحولان دون تكوين ثقافة حقيقية. وإننا بدون أن نتناوله لن تكون لنا ثقافة. لقد حوكم طه حسين، لأنه قال إن ليس لإبراهيم النبي وولده إسماعيل حقيقة تاريخية وأن لهما وجوداً رمزياً ومجازياً. مثل هذا الكلام أحدث هزة في الثقافة العربية وتداولته ردود كثيرة وكتب مضادة انتهت بمحاكمته ومحاكمة مؤلفه. هذا كلام عن إبراهيم وإسماعيل فماذا لو كان كلام طه حسين عن تاريخ الإسلام نفسه. ماذا لو خرج طه حسين قليلاً أو كثيراً عن النموذج المتعارف عليه لهذا التاريخ. ماذا لو اتبع حقاً سبيل المستشرقين في هذا المجال، هو الذي اتُّهم، عن حق، بالاستفادة من المستشرقين. والسؤال كيف يتكوّن لدينا تاريخ إذا كنا نملك نموذجاً ثابتاً لا مجال للتدقيق فيه، ولا مجال بالطبع لمناقشته. ثم إذا علمنا أن هذا النموذج هو كل تاريخنا فكيف يكون لدينا تاريخ. أي كيف يكون لدينا فكر تاريخي وعقل تاريخي ورؤيا تاريخية. ليس التاريخ مجرد وقائع، إنه انتظام هذه الوقائع وتفاعلها وتجذرها في التكوين الاجتماعي والثقافي وما يصدر عن هذه العمليات على الصعيد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والتاريخي نفسه. إذا كان التاريخ مجرد حكاية مأثورة ومجرد حكاية بطولية ومثالية، فإن الذي أمامنا لن يزيد عن الفولكلور. والفولكلور في هذه الحال لن يتوقف عند النموذج التاريخي. سيكون في التاريخ كما سيكون في الأدب والسياسة والاجتماع، وهذه جميعها عندنا، وبدون شك، يغشاها الفولكلور، الذي لا نعرف متى يغدو وحشياً وكارثياً، ومتى يتحول إلى فواجع راعبة.
المستور الذي حاول طه حسين الإيعاز به والإشارة إليه، كان هذا في زمن صارعنا فيه لنخرج من الوصاية الأجنبية الغربية. من آثار هذه الوصاية نشوء نُخَب تحت التأثير الغربي، كان طه حسين من بينها. رغم الموروث الجامد والثقيل لم يكن أمامنا سوى المشروع الغربي، أو لم يكن أمام هذه النخب سوى المشروع الغربي. كتاب طه حسين في نقد النموذج التاريخي العربي (الشعر الجاهلي) كان بالتأكيد محاولة، ليس إلاّ، لإدراج هذا الغرب في مناهجنا وتفكيرنا. ذلك الوقت طالب طه بتعميم التعليم والمساواة القانونية وبطبيعة الحال بالديموقراطية. محاولة طه حسين كانت لتمرير العقل النقدي من ضمن مشروع تغريبي. مهما يكن النقاش حول محاولة التغريب وهي بالتأكيد تستحق نقاشاً، إلا أن فشل هذه المحاولة وسقوطها، الذي تكشّف عبر محطات تاريخية انتهت مؤخراً بالدولة الإسلامية. فشل هذه المحاولة وسقوطها التام كانا بالتأكيد كارثيين. ما بقي الآن ليس سوى الفولكلور الكارثي، ليس سوى الفولكلور الفجائعي. النموذج الموروث الذي يستحيل ببساطة دماء وقتلاً وتغريقاً وإحراقاً. لسنا وحدنا الذين مررنا بهذا الطور، لكننا نمرّ به بجانب عالم استطاع أن يخرج منه نهائياً، ويحقق قيماً وبنى مضادة. حين يقول البابا، الحبر الأقدس بأن آدم وحواء ليس لهما وجود تاريخي. حين يقول إن جهنم رمزية وإن ثمة ملاحدة كانوا أفضل أخلاقياً من متدينين كبار، نشعر ونحن نتراجع إلى الخلف، أن عذابنا سيطول وأن تخلفنا يتفاقم ويتزايد وأننا، حتى بالنسبة إلى أنفسنا وبدايات القرن الماضي، نغدو أكثر سوءاً وأكثر تراجعاً. إننا حقاً نعيش في غير زماننا وغير عصرنا ولن نستطيع بسهولة أن نكمل كذلك.
صحيفة السفير اللبنانية