المسرح السوداني يواجه تحديات الذاكرة… والواقع
المسرح فن وافد على الثقافة السودانية، منذ أواخر فترة الاستعمار التركي، من طريق مصر. وأقدم إشارة وردت إلى عرض مسرحي في السودان ترجع إلى العام 1881م إشراف معلمين مصريين في مدرسة في الخرطوم، حيث قام طالب بتقديم مــــشهد ممســـرح لإحدى مقامات الحريري، وكان العرض يهتم بالكلمة وطريقة نطقها وفن الخطابة والإلقاء باللغة العربية الفصحى.
ويعرض كتاب «المسرح السوداني المعاصر ودوره في المجتمع» (الهيئة المصرية العامة للكتاب) للباحث محي عبد الحي، لنشأة المسرح السوداني في ضوء القيم المجتمعية. وجاء فيه أنه في العام 1903 قدم بابكر بدري؛ رائد حركة التعليم والمسرح في ذلك الوقت عرضاً مستمداً من السيرة النبوية، شارك فيه تلاميذ في مدرسة رفاعة الابتدائية، ما جعل باحثين يعتبرون ذلك العام هو البداية الحقيقية لنشأة المسرح في السودان.
وفي العام 1909 قدمت مسرحية «المرشد السوداني» التي اشتهرت باسم «نكتوت» وتكمن أهميتها في الحث على التعليم، وكان قطبا الصراع في المسرحية هما «التلميذ والراعي»؛ حيث نجد التلميذ منذ بداية المسرحية يسعى إلى تحصيل العلم ويتميز بالسلوك القويم. أما الراعي فكان يسلك طريق الجهل، وكل اهتمامه شرب المريسة «نوع من المسكرات»، لكنه في نهاية الأمر يرتكب جريمة وهو في حالة سُكر.
وحرص المؤلف على أن تكون لغة خطاب التلميذ العربية الفصحى أما الراعي فاستخدم العامية؛ ليؤكد أهمية أثر التعليم على السلوك. ثم ظهر بعد ذلك مسرح الأندية والجاليات العربية المقيمة في السودان في أوائل ثلاثينات القرن الماضي، وانتقل النشاط المسرحي إلى داخل المدارس والمعاهد وبعض الأندية الرياضية التي احتضنت المسرح، منها: نادي الزهرة الرياضي، ونادي المريخ، ونادي الحديد وكلها في مدينة أم درمان. ولعبت هذه الأندية دوراً مهماً في تاريخ المسرح السوداني، ومن بين صفوف فرقها خرج الرواد الذين نقلوا المسرح من دائرة التقليد والنقل والتردد إلى دائرة التأليف والتأصيل والابتكار.
وأنشأ الشوام «جمعية التمثيل والموسيقى السورية» التي بدأت تزاول نشاطها العام 1912، ومن الأعمال التي قدمتها: مسرحية «ثارت العرب»، و «حمدان» لنجيب حداد، و «الشعب والقيصر» المقتبسة من موليير لجورج طنوس، و «يوليوس قيصر» لشكسبير. أما الجالية المصرية فقد أنشأت «جمعية محبي التمثيل» وبدأت نشاطها في العام ذاته وقدمت عدداً من الأعمال منها: «عاقبة البغي»، و «هذا جناه أبي». بالإضافة إلى الفرق المسرحية التي زارت الخرطوم في تلك الفترة كالفرقة الإنكليزية، وفرقة حسن البارودي المصرية.
وتأثر الطلاب في كلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم حالياً) بالأنشطة المسرحية وشغفوا بفن المسرح، وظلت فرقة مسرح الكلية – التي كوّنها وأشرف عليها أحد الشوام- تعرض بعض الأعمال المقتبسة والمترجمة حتى عاد عبيد عبد النور، أحد خريجي الكلية بعد استكمال دراسته خارج السودان، وقام بالإشراف على الفرقة. ومنذ ذلك الحين، انتقل المسرح في السودان نقلة نوعية جديدة، فقدم مسرحيته الأولى «الابن العاق» التي تدور حول ابن عاد إلى بيته ذات ليلة مخموراً، وسبّ أباه وسبّ العقيدة فضربه أبوه حتى تاب توبة، نصوحاً.
وانتقل النشاط المسرحي من الكلية إلى نادي الخريجين في أم درمان عام 1920، وقدم مسرحيات مستمدة من التراثين العربي والأوروبي. وظل المسرح على هذا الحال، فلم يظهر المؤلف الذي يكتب نصاً سودانياً، إلا في بداية العام 1932 عندما تقدم خالد أبو الروس بمسرحية «مصرع تاجوج» وقد استلهمها من حكاية شعبية، متأثراً بأعمال أحمد شوقي المسرحية، وقدم مسرحيته الثانية «خراب سوبا» في أواخر العام 1933، واستقى حوادثها من تاريخ القرن السادس عشر، عندما اتحد العرب مع الفونج لمحاربة النوبة وخربوا عاصمتها. ويذكر المؤرخون أن خراب سوبا حدث مِن طريق امرأة عجوز لها بنت فاتنة استطاعت أن تخلب ألباب الأمراء والوزراء.
وأقلقت المسرحية المحتل الإنكليزي واستشعر خطورتها لجهة تثوير الوعي المجتمعي، فصدر قانون يلزم أي كاتب نص مسرحي بضرورة تقديم نصه إلى رئيس قلم الاستخبارات البريطاني، وأدى هذا إلى ظهور الرقابة للمرة الأولى في السودان. وهكذا خضع مؤلف مسرحية «خراب سوبا» للتحقيق، وطُلب منه حذف بعض أجزائها.
وفي نهاية الخمسينات، اعتلت المرأة السودانية للمرة الأولى خشبة المسرح ممثلة في سارة محمد التي شاركت في مسرحية «الزبد» من تأليف ميسرة السراج؛ مؤسس «فرقة السودان للتمثيل والموسيقى».
وظهرت فرق مسرحية أخرى مثل «النجم الفضي» لمؤسسها أحمد عاطف واختصت بالأعمال السيكولوجية والاستعراضية والغنائية والأوبريتات. ومنذ استقلال السودان عام 1959، ظهرت إرهاصات المسرح الكوميدي الذي قدم شخصيات نمطية مثل» تور الجر» لعثمان حميدة. وبعد افتتاح المسرح القومي السوداني (1959) في أم درمان ظهرت أعمال تدعو إلى تعليم المرأة خصوصاً، ومحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية، مثل مسرحية» أكل عيش» للفاضل سعيد.
وعمل الفكي عبدالرحمن بعد توليه إدارة المسرح القومي عام 1967، على انتظام المواسم المسرحية، وشجع على تأسيس فرق جديدة بدعم من الدولة. ومنذ العام 1967 شهدت الحركة المسرحية السودانية مواسم متتالية من العروض، اشتملت على أكثر من 190 عرضاً.
كما توالت العروض المسرحية الطليعية إبان فترة السبعينات، فأخرج يوسف خليل الكثير من المسرحيات مثل «جسر أرتا»، «الإمبراطور جونز». كما قدم هاشم صديق مسرحية «نبتة حبيبي» على خشبة المسرح القومي عام 1974 واتكأت على الأسطورة، وسلطت الضوء على الكهنة المنجمين؛ الذين كانوا يحددون موعد موت الملك، ثم يختارون خليفة له ليحققوا «نبوءة النجوم».
وظهر الاهتمام بمسرح الطفل في العام 1975، حيث قدم المسرح القومي أول مسرحية للأطفال؛ «السلطان دهشان»، تأليف محمد شهوان، وإخراج محمد رضا حسين. ثم تكونت أول فرقة عرائس في السودان تحت إشراف إدارة الفنون المسرحية والاستعراضية، حيث قدموا مسرحية «سالم الشجاع» عام 1976 وهي مأخوذة عن التراث الروماني. وفي العام نفسه ظهرت مسرحية» الديك الشاطر».
ازدهر المسرح السوداني من 1967 إلى 1987، بفضل اهتمام الدولة بتطوير المسرح القومي، والذي تجلى في تشييد عدد من المسارح، وتأسيس الفرق والجماعات المسرحية، وإنتاج العروض. كما أسهم التلفزيون السوداني في نقل معظم العروض المسرحية، ولكن شرائط معظمها تعرضت للتلف ولم يبق منها إلا القليل مثل: «خطوبة سهير»، «نحن كدا»، «المهرج»، و «نقابة المنتحرين».
وشهد مطلع القرن الحادي والعشرين انفتاح المؤسسة المسرحية على التجارب العالمية في المسرح مثل: أنثروبولوجيا المسرح، والمسرح التنموي، وأصبح السودان مقراً للمبادرة الدولية للمسرح من أجل ثقافة السلام، ونشطت مشاركات الشباب في المهرجانات والمؤتمرات على المستوى الإقليمي والدولي، فمنذ العام 1998 أصبح السودان عضواً في الرابطة العالمية للدراما والتعليم، وعضواً في الهيئة العربية للمسرح، والرابطة الأفريقية للدراما من أجل السلام.
وقدم معظم الفرق المسرحية – الرسمية والحرة- مِن 2010 إلى 2016 الكثير من العروض التي أسهمت في استمرار الحركة المسرحية في السودان، ولكن في صورة غير منتظمة، سواء أكانت في المسرح القومي في أم درمان، أم مسرح خضر بشير في بحري، أم في قاعة الصداقة في الخرطوم، أم مسارح القاعات والنوادي ومراكز الشباب والساحات العامة، نتيجة تغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية، خصوصاً بعد انفصال جنوب السودان في مطلع 2011.
صحيفة الحياة