المفاضلة بين “ضحيتين” (عبدالحسين شعبان)
عبدالحسين شعبان
ارتفعت أصوات المعتصمين والمتظاهرين في الحراك الشعبي في محافظة الأنبار وسواها من المحافظات الغربية والشمالية، إضافة إلى بغداد، ولا سيما منطقة الأعظمية وغيرها، تطالب بإنصاف الضحايا وأسرهم وذويهم بإلغاء قانون المساءلة والعدالة أو إعادة النظر فيه بحيث يتم تعويض عشرات الآلاف من الذين كانوا ضحية تطبيقه السيئ من دون وجه حق، فحرموا من وظائفهم ورواتبهم التقاعدية، وإلغاء بدعة “المخبر السرّي” وإطلاق سراح الأبرياء من المعتقلين، وإلغاء المادة 4 إرهاب، ووضع حد لسياسات التهميش والإقصاء، وغيرها من المطالب المشروعة والعادلة .
ولكن بسبب عدم تطبيق معايير العدالة الانتقالية وعدم كشف الحقائق كاملة، بما فيها إنصاف ضحايا النظام السابق وتعويضهم وجبر الضرر، خصوصاً عوائل الشهداء والمقابر الجماعية وغيرها، أخذ البعض يفاضل بين ضحايا الأمس وضحايا اليوم، وهو الأمر الذي لا يوجد رابط بينه، فالضحايا هم الضحايا في الماضي والحاضر والمستقبل، قدامى وجدد، والعدالة لا يمكن تجزئتها أو الافتئات عليها، كما لا يمكن التعامل معها بانتقائية أو بازدواجية في المعايير أو ضدّية، لأنها، أي العدالة، واحدة في كل الأوقات، والضحية هي الضحية، بغض النظر عن انتمائها السياسي وانحدارها القومي ودينها ومعتقدها وجنسها ولونها وأصلها الاجتماعي .
ولعلّ الأغلبية الساحقة من المشاركين في العملية السياسية أو خارجها، وإن اختلفت رؤاهم الاّ أنهم أخذوا يدركون أنْ لا سبيل لتطبيع الوضع السياسي وعبور الأزمة المستفحلة إلاّ بتلبية مطالب المعتصمين أو قسمها الأعظم، على الرغم من اختلاف زاوية النظر إليها، حيث تصوّر الدعوة إلى إطلاق سراح الأبرياء كأنها إطلاق سراح الإرهابيين والعفو عنهم، كما يذهب البعض في النظر إلى مسألة العفو العام، وإلى مسألة “المخبر السري” .
ويتخّذ مطلب إلغاء أو تعديل قانون المساءلة والعدالة، وهو سليل قانون اجتثاث البعث الذي أصدره بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق في 16 مايو/ أيار ،2003 كأنه دعوة لإعادة حزب البعث والبعثيين إلى السلطة، مثلما تصوّر الرغبة في إلغاء قانون الإرهاب، لا سيما المادة الرابعة منه، كأنها دعوة لتبرير ممارسة جرائم الإرهاب أو غضّ الطرف عنها، فما حقيقة هذه المادة؟ وما علاقتها بحقيقة الوضع السياسي الراهن والمستقبلي في العراق، لا سيما في قضية مكافحة الإرهاب؟
صدر قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 في نوفمبر/تشرين الثاني العام 2005 تساوقاً مع الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، في ظل وجود القوات الأمريكية المحتلة، ولا ننسى أن صدوره كان في فترة اشتداد المقاومة المسلحة والسلمية ضد القوات المحتلة التي شهدت أيضاً انفجار العنف الطائفي وانفلات الوضع الأمني .
وقد تضمّن القانون نصوصاً عقابية شديدة الخطورة، خصوصاً وقد جاءت عامة وغير محدّدة، لدرجة يمكن القول عنها إنها نصوص فضفاضة وقابلة للتفسير والتأويل، لا سيّما في ظل الصراع المحتدم، والمحاصصة الطائفية والإثنية، وضعف المؤسسات بشكل عام، بما فيها القضائية، واستمرار ضعف هيبة الدولة وتفشّي الفساد المالي والإداري، الأمر الذي يمكن استغلال وجود قانون لفرض مثل هذه العقوبات الغليظة التي تصل إلى عقوبة الإعدام، لأغراض سياسية أو مذهبية، أو استخدامه ضمن محاور الصراع السياسي على السلطة في ظروف انعدام الثقة والاتهامات المتبادلة بين أطرافها .
ونصّت المادة الأولى من القانون على أن الإرهاب هو فعل إجرامي يقوم به فرد أو جماعة منظمة، ليستهدف فرداً أو مجموعة أفراد أو جماعات أو مؤسسات رسمية أو غير رسمية، ويوقع أضراراً بالممتلكات العامة أو الخاصة، بغية الإخلال بالأمن أو الاستقرار أو الوحدة الوطنية، أو إدخال الرعب والخوف والفزع بين الناس أو إثارة الفوضى، تحقيقاً لغايات إرهابية .
ولو حلّلنا هذا النص فإننا سوف لا نصل إلى تعريف محدد للعمل الإرهابي، سوى أنه فعل إجرامي، سواءً جاء من فرد أو جماعة ويستهدف إلحاق الضرر والإخلال بالأمن، ويدخل الرعب ويثير الفوضى، وذلك لأهداف إرهابية . ولم يحدّد القانون معنى الغايات الإرهابية، خصوصاً أن مثل هذا التحديد ضروري، لا سيما إذا استهدف المدنيين وألحق الأذى المادي أو المعنوي بهم، وأسهم في ترويعهم، وهو الأمر الذي تندرج فيه الجريمة الإرهابية، وقد توجد جرائم كثيرة تُحدث الأذى ذاته، لكنها ليست جريمة إرهابية، لأن الهدف منها مختلف .
إن وجود نصوص واضحة للتجريم أمرٌ مهم لتحديد العقوبة طبقاً للمبدأ المعروف في القانون الجنائي الذي يقول “لا جريمة ولا عقوبة الاّ بنص”، وهو ما أخذت به معظم دساتير العالم، وكذلك اعتمده القانون الدولي الجنائي، لا سيّما نظام محكمة روما “المحكمة الجنائية الدولية” التي تم التوقيع عليها في العام 1998 ودخلت حيّز التنفيذ في العام ،2002 استناداً إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي تأخذ بمبدأ “الشرعية الجنائية” حيث تؤكد على مبدأ “لا عقوبة إلا جريمة إلاّ بنص” .
وقد ذهب قانون العقوبات رقم 111 لعام 1969 إلى اعتماد هذا المبدأ حين نصّ على: لا عقوبة على فعل أو امتناع عنه الاّ بناء على قانون ينص على تجريمه وقت اقترافه، وبهذا المعنى لا يجوز توقيع عقوبات أو اتخاذ تدابير احترازية “استثنائية” لم ينصّ عليها القانون .
وقد اعتمد قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي وضع صيغته الأولى نوح فيلدمان الأمريكي الجنسية والصهيوني التوجّه، والممهور من قبل بول بريمر في 8 مارس/ آذار ،2004 وفيما بعد الدستور الدائم 15/10/2005 الذي استوحى معظم مواده الأساسية من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، على المبدأ القانوني الجنائي “لا جريمة ولا عقوبة الاّ بنص، ولا عقوبة الاّ على الفعل الذي يعدّه القانون وقت اقترافه جريمة” (المادة 19- ثانياً) .
ولعلّ هذه المقدمة تضع علامات استفهام حول النصوص العائمة الواردة في قانون مكافحة الإرهاب، ومنها المادة الرابعة التي يمكن تفسيرها ضد المتهمين، بل يمكن استخدامها لأغراض كيدية وثأرية وانتقامية، وربّما هذا ما هو ما حصل بالفعل، ولهذه الأسباب خرجت الحشود البشرية التي تطالب بإلغاء هذه المادة أو إلغاء القانون كلّه، طالما أنه صدر في ظل الاحتلال، ويكفي لتجريم الأعمال الإرهابية، تطبيق القوانين العراقية النافذة بما فيها قانون العقوبات، خصوصاً أنها تتضمن أحكاماً محددة طبقاً لمبادئ الشرعية الجنائية .
إن ما قام به الاحتلال من إلغاء للقوانين وإجراء تغييرات في طبيعة الأنظمة العقابية أو إصدار قوانين جديدة، إنما هو عمل غير قانوني وغير شرعي، بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977 بخصوص ضحايا المنازعات الدولية المسلحة وضحايات المسلحة غير الدولية، حيث حظرت المادة 54 على دولة الاحتلال تقييم وضع الموظفين أو القضاة في الأراضي المحتلة، وهو الأمر الذي خالفه بريمر بإصدار قرارات بإعفاء نحو 250 قاضياً من مناصبهم، في واحدة من القرارات غير الشرعية التي عُرفت باسم “مجزرة القضاء العراقي” .
لقد كان قانون مكافحة الإرهاب متعلقاً بمرحلة ما بعد الاحتلال التي انتهت عند خروج القوات المحتلة في نهاية العام ،2011 الأمر الذي يستوجب وقف العمل بهذا القانون أو إعادة النظر فيه، لا سيما وهو يذهب إلى إنزال عقوبة الإعدام طبقاً للمادة الرابعة . والإعدام كعقوبة لا يزال الجدل بشأنها عميقاً على المستوى الدولي، خصوصاً لجهة إلغائها أو استبدالها، فما بالك حين يستهدف متهمين على أفعال غير محددة ولا يوجد نص واضح بشأنها؟
وإذا كان حق ضحايا النظام السابق قائماً وواجب الأداء، بما تعرضوا له، فإن حقوق الضحايا الجدد ينبغي أن تكون مكفولة أيضاً، مثلما يقتضي الواجب الوقوف بوجه الإرهاب بجميع أشكاله وصوره فردياً كان أم جماعياً، وتجفيف منابعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تمهيداً للقضاء عليه، وفقاً للمعايير القانونية المعروفة، إضافة إلى قواعد العدالة الانتقالية .