النشاط القرائي يعني اكتشاف خطاب وصنع خطاب
تساهم القراءة في تكوين مجموعة متباينة من الرؤى ضمن طقوس مختلفة وحدود فاصلة بين قراءةٍ وأخرى، ولا تُكمن فائدة القراءة بأنها دالة إستدلالية لإشباع رغبة ما، أو الوصول الى أهداف وضعية معينة، وهنا قطعا نتحدث عن قراءة الأدب بمختلف أنماطه وكيفية الإفادة لترتيب الذائقة الجمالية بتوافر المعطيات ذات الصلة بالبنى الفكرية والإجتماعية والنفسية للقارئ.
وعندما يجد المرء أن حاجاته النفسية بحاجة الى دفعات من المنشطات فإن محاولاته تتسم هذه المرة بالتركيز لإيجاد الصلة المشتركة ما بينه وبين الكاتب، ونعني بالتركيز هنا قدرة القارئ على تحفيز قواه العقلية لتفجير ما أمكن من خزينه المتوارث من قراءاته السابقة والاختيار من هذا الخزين ما يلائم وما ينسجم مع قراءاته الجديدة عبر قنوات التذكر والمشابهة والتأثير والتأثر.
وبذلك يجد القارئ بأنه يسير أثناء القراءة بقوى فاعلة مدركة للتوصل الى المشتركات مع ما يتم قراءته وصولا للإفادة وتحقيق الرغبة الجمالية والتي يعيد القارئ من خلالها النظر الى كل ما حوله بنظرة جديدة وجدية محرضا بذلك القوى الكامنة وكذلك شد مفاصل القوى السائبة وتكوين هويته الثقافية والفكرية من خلال إدراك الأشياء غير المدركة وكذلك إدامة الخلق والإكتشاف عبر المخيال القرائي واتساع مدياته إلى آفاق غير محدودة.
فالقراءة بهذا التعبير ليست عملية بصرية فقط بل هي عملية تبصيرية، تبصيرية بما يكتب ويتطلب ذلك توقف القارئ إزاء ما يرد من وقائع ودلالات وأسماء ومسميات وبيانات رمزية وفواصل ومخارج وانتقالات، وكذلك أمام تشكيلات من الجمل المغرقة بالغرائبية، وحتى تلك التي على درجة من الوضوح، والتبصير هنا يعني الدخول الى هذا العالم، والدخول لهذا العالم هو الآخر يعني حمل القارئ لأدواته المناسبة للبدء بحرث ما ذكرنا من الوقائع ومرادفاتها وبالتالي يساعد ذلك على تبلور الذائقة القرائية أي الإنتقال من الرغبة الوقتية الى الرغبة الدائمة.
وهذا الإنتقال يعني أن القارئ بدأ يدرك تماما أنه قد وصل الى العلاقة الروحية بينه وما بين ما يقرأه وبذلك يكون القارئ مشاركا في نقل الأفكار والأحاسيس والمواقف الى آخرين بفعل التأثير الذي حدث في منظومته النفسية والعاطفية؛ وعندها تحقق القراءة ضمن هذا الوصف فوائد متعددة عبر حاجات الذات وحاجات الآخرين لخلق المناخات للإستقرار الدائم في الباطن الجمالي.
لعل كل ذلك يعني، حين يلم القارئ بكل ما ذكرناه فإن نشاطه القرائي سيكون قادراً على فهم أي خطاب وهذا الفهم يتمثل في الإدراك والإحساس والتفاعل مع الخطاب وبنفس الوقت يكون قادرا على صنع خطابٍ آخر بعد أن يتمكن من اكتشاف متطلبات الكتابة وأهمها الإحساس بما يجب أن يُكتب.
ميدل ايست أونلاين