النصيحة
الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور سمع رجلاً يعلن فساد الوضع وتفشي الظلم وسوء الأحوال، فاستدعاه واستأمنه ليقول ما يشاء: ” إن الذي دخله الطمع حتى حال ما بينه وبين الفساد والبغي، لهو أنت”. فقال المنصور: “ويحك، وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟ قال الرجل: اهتممت بجمع أموال الرعية، وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر وأبواباً من الحديد وحجاباً من المسلحين، وأحطت نفسك بنفر من الناس، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع العاري ولا الضعيف الفقير، وكلهم لهم في هذا المال حق. فلما رآك هؤلاء النفر حولك، تجبي الأموال وتجمعها ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله، فما بالنا لا نخونه، وقد سجن لنا نفسه؟
هؤلاء تآمروا بألا يصل إليك من أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا. فهابهم الناس وجاملوهم (بلغة أيامنا) بالهدايا، ليستقووا بهم على من هم دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً وصار هؤلاء القوم شركاء لك في سلطانك.
ثم روى الرجل للخليفة أنه كان يسافر إلى الصين. وفي إحدى المرات كانت هناك مشكلة: أصيب ملك الصين في سمعه فصار أطرش. فبكى بكاء شديداً لأنه لم يعد قادراً على الاستماع إلى شكاوى الناس، وصراخ المظلومين.
فأصدر أوامره ألا يلبس الأحمر إلا المظلوم، أو صاحب الشكوى وأصبح يركب فيلاً ضخماً كل يوم ويتجول لير ى أصحاب الأردية الحمراء. ثم أضاف الرجل للخليفة مذكراً وشارحاً:
ـ إن كنت تجمع المال لولدك. فقد أراك الله عبرة في الطفل يأتي عارياً ويذهب بعد طول مكوث في الأرض عارياً.
ـ إن كنت تجمع المال لتشديد السلطان. فقد أراك الله عبرة في بني أمية. مابدهننتنم أغنى عنهم مال ولا ذهب ولا سلاح.
ـ إن كنت تجمع المال لغاية أعلى… فما هل أنت بالغ ذلك به. فاستنصحه المنصور قائلاً: كيف أحتال لنفسي؟ فنصحه بأن الناس يثقون بأعلام لهم ويرضون بهم فاجعلهم في بطانتك يرشدونك، وشاورهم في أمرك يسدّدوك. فقال المنصور: بعثت إليهم فهربوا مني. فقال الرجل: خافوا أن تحملهم على طريقتك (أي أن تجعلهم يفعلون ما ترغب وتفسدهم كالحاشية الموجودة).
ونصحه بأن يقوم بإجراءات العدل ونصر المظلوم، وقمع الظالمين… وعندئذٍ سيأتون هم من تلقاء أنفسهم ليساعدوا في تحسين الأحوال.
هذا الرجل لم يقرأ علوم الإدارة، وأصول السياسة، ومصادر القانون المدني، ولم يقرأ علم الاجتماع الحديث… حين استنتج قانون ” البند السلبي” لعناصر الفاعلية في المجتمعات الحديثة، حين تكون الدولة هي مصدر الإثراء والإفقار وطاحونة إنتاج الفساد، والتباين الاجتماعي في سلّم الحاجات الإنسانية.هذا الرجل الذي طلبه المنصور، ليكون الأول بين الحاشية الجديدة، فلم يجده اختفى لأنه، من بعيد، أراد اختبار الإصغاء الحقيقي للنصيحة على أرض الواقع. وربما اختفى إلى الأبد… لأن شيئاً لم يتغير!!