«الهيبة»: أرض دراميّة جديدة… وعثرات
دخول أرض «الهيبة» (من إنتاج «سيدرز بروداكشن» – صبّاح إخوان – وإخراج سامر البرقاوي)، والتي تحولت ظاهرة جماهيرية تكسر حدود الحالة الدرامية الخاصة بمسلسل تلفزيوني، يستدعي حكماً إبهار الوهلة الأولى بعين المشاهد أمام الأرض البكر درامياً، والموجودة في الأساس الواقعي، وتتسع يومياً باتساع التفلت الأمني في لبنان، ونير عدم الإنماء المتوازن بين المناطق، وتحكُّم أطراف «لا سيادية» و»غير شرعية» بمعظم حدود الوطن الصغير، لسبب معلن في السياسة، وأسباب أخرى تحت طاولة الحقيقة بعيدة من المعلن. مشاهد الطريق إلى «الهيبة» منذ الحلقة الأولى ليست عبثية. هي دلالة على خريطة الكاتب هوزان عكّو في تحديد المسافة بين الواقع والدراما في نصه والمعالجة بينهما، حيث نجح وتعثر، بحكم معادلة دقيقة يجب ألا تطأ الإسقاط المباشر ولا أن تبتعد كثيراً من البنية التحتية للحامل الدرامي في كيان «العشيرة».
يقطع موكب الجنازة جسر منطقة «ضهر البيدر» الى قرية حدودية تتقاطع مع سورية. يدلّ الطريق على بعلبك الهرمل، تاركاً الوجهة الواقعية لمساحة التصور في عقل المشاهد مع إعطائه المفاتيح، كحوارات مصاغة من شخصيات واقعية. يقول «جبل»: «نحن مو عصابة نحن عيلة (…) عندي ناس قاتلها الفقر»، في مشابهِ لمقولة تاجر المخدرات المعروف نوح زعيتر.
يسير العمل حتى منتصفه بشخصيات وتشويق درامي وحبكة مشدودة، تطغى على عدم قوة الحدث في حلقات معدودة، وأيضاً على العثرات في الصورة الأساس لـ»العشيرة» التي تميزها «قداسة» عاداتها وتقاليدها وعصبيتها الأسرية. بغض النظر عن التفجع الذي آثر الكاتب «صائباً» تلافيه في بداية العمل، «عادل» ابن عشيرة «شيخ الجبل» لم يحظ بجنازة تقليدية، إذ على رغم سؤال والدته «ناهد» لاحقاً عما إذا حضرها أناس كثر في إشارة ذكية الى أهمية هذه المراسم، لم ينتظر ما يكفي من الرجال تابوت جثة شقيق «الزعيم» الذي حملته سيارة بلا صوت القرآن، كما لم يستقبل التعازي إلّا في صالون لا يكفي لحفنة من الناس، في حين الواقع يفترض العكس. وأيضاً المقبرة حيث دُفن، هي ديكور واضح وهزلي، فشواهد القبور المحفورة برسم واحد، تحمل أسماءً من أبناء عائلات مختلفة في مساحة ضيقة، علماً أن حتى الأسر غير العشائرية لها مساحاتها الخاصة في المقابر. وشقيقة الميت «منى» تضع المكياج بعيد الدفن مباشرة وأرملته «عليا» تخلع الأسود، من دون أي إشارة أو استنكار من حماتها المتمسكة بـ»الأصول». وحتى منزل العائلة لا أثر فيه لصورة ربها الراحل «أبو جبل». ويزيد من حدة هذه العثرات، أخطاء مباشرة في الـ»راكورات» ومنطق الصورة. مثلاً، يخرج «صخر» بسيارة مزودة بلوحة أرقام من منزله، فيصل الى الجامعة من دونها! ومعظم مشاهد قيادة سيارات عائلة «شيخ الجبل» من نوع «يوكون – جي أم سي»، يظهر بوضوح ناقل السرعة على خانة الوقوف، في مشاهد تحرك السيارة!
لا مصادفة في شخصيات «الهيبة» المرسومة كلها، والمجسّدة في معظمها، حد الإتقان، من الاسم حتى السلوك والكاراكتير واللازمات. ولا ليّ لعنق الدراما في خلط الجنسيتين السورية واللبنانية، إذ يفرضها حقاً لا ترفاً الفضاء الجغرافي، ما خلا سقطة اللهجات اللبنانية الكثيرة والمختلفة في بلدة واحدة نائية.
الشخصية الأساس هي «جبل» الذي كما اسمه «لا تهزه ريح»، وكما لازماته جاهز للتحدي دائماً ومواجهة كل شيء بأسلوب «لا تهكلو للهم». يلبس تيم حسن حركة الجبل فعلياً، حواراته مقتضبة وحاسمة وواثقة، حركاته وردود فعله قاسية وثقيلة، حتى في السلام والعناق، كل عصب فيه مشدود من العين الى أطراف الجسد. ويضع الكاتب منذ اللحظة الأولى «جبل» في مكانته، فالوصول إليه ليس مجانياً، تبدأ المشاهد بالحديث عنه، قبل الحديث معه، ومن ثم سماع صوته، وأخيراً رؤيته. ويذهب حسن الى اللعب بالأداء كثيراً بحرفية عالية مع الطرف الآخر، مثلاً يقلد لهجة «عليا» اللبنانية في أحد المشاهد قائلاً: «متل ما بدك».
أما «عليا» الآتية من كندا، فتتقن ندين نسيب نجيم منذ البداية، تضمين قاموسها اللغة الإنكليزية بحكم الغربة الطويلة، وتواصل الأداء بعفوية وتلقائية مقنعة، تبرز في مشاهد غضبها وحزنها وأمومتها، بينما تقع في مشاهد الدهشة والمفاجآت. في الجنازة، تستمع الى صوت الرصاص كمن اعتاده، بينما يصدمها في الحلقة التالية. وتدخل غرفة طفولة زوجها الراحل للمرة الأولى خلف حماتها المتأثرة بالمكان، لكن «عليا» لا تؤدي أي إشارة الى حنين أو فضول أو معنى اللحظة الأولى لما يتعلق بمن تحسرت على «عدم قضاء وقت أكثر معه»، ومن أحبته لدرجة ألّا تسأل عن عائلته وماضيه في شكل يبرره العشق والعقلية الكندية الى حين وفاته، لكن لا يبرره في الأسبوعين ما بعد موته، فكما بحثت عن المحامي (جهاد الأندري) عبر محرك البحث «غوغل»، كان في إمكانها البحث عن عائلة «شيخ الجبل».
ولا يقتصر «اللعب» على الشخصيات في الواجهة، بل يمتد الى معظم البطولات بخاصة «شاهين»، من تجسيد عبدو شاهين الذي لم يكتب الدور له بدايةً وفق ما أشيع. يستطيع الممثل الشاب تطويع أدوات كثيرة ووضعها في خدمة البناء الدرامي للشخصية، من لازمة «ابن عمي» حركة اللسان التي اعتمدها، بالعينين ونبرة الصوت والانفعال والأداء القابض على الشخصية في مشاهد صعبة تتضمن أحياناً الجد والمزاح في آن، إضافة الى المشهد الرئيس الذي جمعه بابن عمه «جبل»، والذي حمل ذروة الصراع الدرامي في العمل، بين الأمانة والثقة من جهة، والتخوين من جهة أخرى، بما يعني الأمر لدى «ابن العشيرة».
وأيضاً حسّان مراد بشخصية «دريد» استطاع أن يبرز طاقة فنية مهدورة في الدراما اللبنانية. مشهد التوتر وملاحقته فعل «جبل» بتسكير الأبواب وفتح القنبلة اليدوية، بردود فعل صامتة قبل الكلام، تثبت ممثلاً قادراً بأدوات الصمت كما الحوار. وأخيراً، يحصد العمل اتهامات ظالمة حول «تمجيده» صورة «العصابة العائلية» في بلد يلاقي أبناؤه حتفهم يومياً على يد أولئك المجرمين، إلّا أن الكاتب يرفع هذه الشبهات عن عمله الى جانب بديهة أن الواقع يخلق الدراما لا العكس في الغالب، فيركز عكّو على قيم «جبل» وخطاياه بنسبة واقعية، بعيداً من الظلم، وبعيداً من مشاهد الدم على رغم العنف. يظهر الأمر جلياً في حسرة «جبل» على مقتل الشاب والشابة بسبب ذهابهما «خطيفة»، مع تمسكه بمبادئ العشيرة برفض سلوكهما، لكن برفضه فعل القتل، إضافة الى إصراره على الاكتفاء بالحشيش كمخدر غير قاتل كما المخدرات الأخرى، وبالسلاح الخفيف الذي «لا يخدم الإرهاب».
صحيفة الحياة اللندنية