الواقعية الإنطباعية في “الحب فوق هضبة الفيس بوك”
أول ملمح في قصص “الحب فوق هضبة الفيس بوك” للقاص أحمد فتحي رزق، العنوان الذي يتناص ويستلهم القصة الشهيرة للروائي نجيب محفوظ، باستبدال مفردة “الهرم” إلى مفردة عصرية تشكل الآن قسمًا كبيرًا من الاهتمام اليومي، وتؤثر أبلغ الأثر في العلاقات الاجتماعية المعاصرة، لذلك حضرت وسائل التواصل الاجتماعي وتداعيها الأخلاقية والنفسية في العديد من قصص المجموعة، بحيث يمكن القول إنها كانت المفردة المركزية في القص بالمجموعة، سواء على مستوي القاموس القصصي، أو على مستوي الهوية الآلية والكذب الإلكتروني أحيانًا في تقديم هذه الهوية، وتزييف الحقائق والتزيين للقبيح. وعلى مستوى حتى الإجراءات فنجد آليات للتعارف والفراق عبر الفيس وطرق ذلك ومحاذيره.
وحيث إن الفيس وأثره الاجتماعي كان هو العلامة المهمة والأظهر، فالقاص أيضًا انطلق بعين القاص الطوَّافة ترصد وتحلل وتشرح في جرأة وبدون خوف هذه الأدواء الخطيرة، فالقصص تمثل إدانة الانحراف الأخلاقي والانجراف أو هذه العلامات الصغيرة التي تقود لطريق الانهيار، فتدين القصص في قوة شحوب الضمير، وهزال الفضيلة في الطبقات الاجتماعية جميعا، وعبر عدد من المهن، لكنه يمجد المقاومة وينتهج سبيلا آراه جيدًا حيث إن الأدب الجدير بالمتابعة والحفاوة هو الذي يتعاطف مع لحظات الضعف الإنساني، اعترافًا بها، وتقديرًا للإنسانية لتنهض من كبوتها، لذلك نجد بالقصص الندم والتوبة، والدعاء والرجاء، أو التنفير برؤية المصائر المظلمة لشخوص في القصص، كما نجد بعض النهايات للقصص المفتوحة، وفي أخرى نجد الخلاصات.
صيحة تحذير من ظواهر اجتماعية مرهقة يجب أن نسعى جميعًا لتبديلها ووضعها القاص على بساط القصة في بؤرة اهتمام القارئ، بما حقق فاعلية لفكرة اجتماع الأدب وواقعية السرد المعاصر والأسلوب قائم بالتشغيل على لحظة التنوير القصصية الشهيرة، عبر القصة القوس لنكتشف المغزي عبر لحظة التنوير. والراوي في القصص من نوع العليم كلي الإحاطة القائم بالشهادة والرؤية من أعلى، والمشرف على مجتمع القصص، يحيط بالماضي والحاضر والمستقبل، ويقوم بالتعقيب والتعليق والتأصيل لحكمة القصص.
كما نرصد اللغة في القصص والتي كانت بعضها بعامية مصرية صميمة تحقيقًا للواقعية في رأي، أو فصحي سهلة غير متعقرة، وبطريقة حكي متدفق قائمًا علي تقنية الحذف وبث الأحداث الكبري في حيوات شخوص القصص، لذلك كان الإيقاع السردي سريعًا كطرقات خاطفة لاهثة تناسب إيقاع العصر العاصف، وتناسب أيضًا إيقاع وسائط التواصل الإجتماعي.
وبعض القصص لم يكن الحوار فقط بالعامية بل كان السرد أيضًا، والأمر فيه آراء كثيرة فيما يتصل بالحوار في القصص، فالبعض يرى ان الأدب يرقى بالذائقة اللغوية، وأنها واقعية الحال لا المقال، أي يعبر الحوار عن الخصائص الثقافية للمتحدث، بينما يرى البعض أن هناك مواقف لا يمكن بث واقعيتها وحيويتها إلا بلغة عامية، وفريق ثالث يرى استعمال العامية الراقية التى لا تسفل إلى السوقية، ولغة القاع المبتذلة. أما لغة السرد بالعامية فالخلاف حولها أشد. والشاهد أن القاص لم يلتزم سيرًا محددًا، فقام بالتنويع في هذا الشأن.
وتتباين مذاهب الواقعية في الأدب بين الواقعية النسخية – لا الفرتوغرافية، فالتصوير الفوتوغرافي الجيد يحمل روح المصور وانطباعه – التي تنقل الواقع كما هو وتصور قاع القاع الإجتماعي – في وجوه متعددة سواء الهامش المنحدر أخلاقيًا أو الوجه المترف العائب – بلغته السوقية، ومظاهره الآسنة. بينما الواقعية الإنطباعية تعني –كما أفهم – ترشيح مفردات المجتمع وتقديمها من خلال انطباع الأديب، فهو يصفى بذاته، وينظر عبر منظوره وتكوينه النفسي والثقافي والفني. وهناك ألوان أخرى من الواقعية، لكن نشير للون الواقعية الإنطباعية في القصة الإجتماعية. فهى واحدة وثلاثون قصة يمتزج دمها بشريان المجتمع، وتتغذي بطاقة تعبيرية من آهات وأوجاع واقعية، ورؤية لآفات ودواهي، فهي قصص واقعية، جهيرة بعذابات نصنع بعضها بإيدينا ويصنع بعضها الآخر الواقع ذاته، فعبر رصد التحول الاجتماعي والهجرة غير الشرعية وآثارها المرعبة، والذئاب التي تنتشر تنهب الأعراض في الفيس، وآثار انحلال الأسرة صوبة المجتمع وتفسير مقنع في حبكات متتالية حول أسباب كوارث الطلاق والعنف الأسري والتصحر العاطفي في رحابها.
فمثل القصة كالطبيب الذي يضع يديه على موطن الداء بدقة، ونقدم نموذجًا: “قالت أحيانًا استعجال الأهل في ستر بناتهم يكون وبالًا عليهم وعلى كل العائلة”، ففي العبارة الموجزة سياق اجتماعي، وظلال نفسية جمعية، وإلماح لمدى الاحتراب الأسري والذي يجر آلامه للجميع لصناعة الضغينة الحالقة.
إنها صيحة تحذير من ظواهر اجتماعية مرهقة يجب أن نسعى جميعًا لتبديلها ووضعها القاص على بساط القصة في بؤرة اهتمام القارئ، بما حقق فاعلية لفكرة اجتماع الأدب وواقعية السرد المعاصر.
ميدل إيست أون لاين