الوحدة السورية المصرية: البداية والنهاية
أعلن عن قيام الوحدة السورية المصرية في مثل هذا الشهر من العام 1958، وكان إعلان الوحدة حدثاً مفرحاً للشعب العربي في كل أقطاره، لأنه جاء استجابة لتيار المد القومي العربي الذي كان طاغياً في ذلك الوقت. واعتقد الشعب العربي أن إعلان الوحدة سيكون بداية لتحقيق الوحدة العربية الكبرى، وبالتالي تحقيق الآمال العربية الكبرى السياسية والاجتماعية والوطنية بشكل عام واستكمال الاستعدادات لمواجهة إسرائيل والإمبريالية، ولذلك اجتاحت الأفراح جميع البلدان العربية جميعها.
سعت سوريا للوحدة، بسبب المد القومي فيها، والإيمان بالوحدة العربية الكبرى، وخلاصاً من التهديدات التي كانت تواجهها، سواءً منها الحشود التركية على حدودها الشمالية وتهديدها المباشر من الجيش التركي و «حلف بغداد» الذي كانت تركيا تشكل عموده الأساسي (تشكل الحلف من تركيا والعراق والباكستان)، وكانت هذه التهديدات يومية ومباشرة، هذا من جهة، أم بسبب التناقضات الداخلية السورية التي كان من الصعب أن يُفوض حزب واحد أو تيار واحد بإدارة السلطة السورية والدولة السورية. وكانت الصراعات محتدمة بين التيارات القومية والقوى اليمينية، وهدد هذا التناقض الداخلي استمرار سوريا ووصولها إلى النضج السياسي الكامل، فسلمت قيادتها للعسكر، أي للجيش السوري، حيث رأى مجلسه العسكري، أن الحل يكون في الوحدة السورية المصرية، وأرسل وفداً لمقابلة عبد الناصر وسماع رأيه، ولكنه، على أي حال، تجاهل تحفظاته، وسار في طريقه، وفرض ذلك الطريق على القوى السورية الأخرى. ولم يتح الحماس للوحدة وقوة التيار القومي أن يدقق أحد، بالسلبيات المحتملة، لقيام هذه الوحدة بالصيغة التي قامت بها، أي وحدة كاملة شاملة بدون تحفظ، كما لم تتم دراسة تقويمية واحدة تتنبّه للسلبيات المحتملة.
تناقضت دولة الوحدة مع شعبها أي مع الجماهير الشعبية التي أقامتها. ولم تحقق لهذه الجماهير ما تصبو إليه، سواءٌ على النطاق العربي لتحقيق انضمام أقطار أخرى، أم على الصعيد الداخلي لتحسين حياة الناس وتعميق الحرية والديموقراطية ومعايير الدولة الحديثة بشكل عام، وعلى رأسها تكافؤ الفرص وفصل السلطات. وقد أسست دولة الوحدة منذ اليوم الأول جهازاً أمنياً داخلياً باسم «مباحث أمن الدولة»، (ولم يكن في سوريا وقتها أي جهاز أمني مدني على الإطلاق، وكل ما كان موجوداً هو الشعبة الثانية في الجيش التي كانت تهتم بشؤون العسكريين)، ولذلك كانت «مباحث أمن الدولة» بداية التسلط والقمع واختراق تكافؤ الفرص وإلغاء الحريات وغيرها، وقد تضخمت الأجهزة الأمنية الداخلية في ما بعد، ليس في سوريا ومصر فحسب، بل بات تضخمها تقليداً للبلدان العربية كلها، وأصبح لها صلاحيات ونفوذ، ونجحت في بعض البلدان أن تقيم دولة أمنية كاملة. وفي الحالات كلها لم يكن أحد يتصور عزل الجماهير الشعبية عن دولة الوحدة، أي عن دولتها، وإبقاءها بيد فئة من الانتهازيين وأجهزة الأمن، وجميعهم من فاقدي الرؤية والرأي، وما كانوا يهتمون بغير القمع المباشر للشعبين السوري والمصري. وهكذا قام التناقض بين دولة الوحدة وشعبها منذ اليوم الأول لقيامها، مما اضطر الدولة بعد حل الأحزاب السورية والمصرية أن تعتمد على مرجعيات قديمة ومتهالكة مثل القبلية والطائفية. ويبرز دور هام للقبيلة وقادة القبائل وأصبحوا يأمرون وينهون ويرشحون أبناء قبيلتهم لتسلم مناصب في الدولة، هذا إضافة إلى الانتهازيين والوصوليين الذين لا التزام قومياً لهم.
ومن طرف آخر اتخذت سلطة الوحدة إجراءات اقتصادية واسعة وعلى رأسها الإصلاح الزراعي، وسعت إلى تصنيع البلاد. لكن هذه الإجراءات لم تنجح، لأنها لم تشرك الشعب وأصحاب المصالح منه، في هذه المجالات. وعلى ذلك حكمت البيروقراطية الإدارة والاقتصاد وعملية التطوير والبناء أي الدولة برمتها، وكان كل شيء بقرار من هذه البيروقراطية، التي لم يكن لها أي توجه شعبي أو إصلاحي، أو حتى لم تكن مهتمّة بمستقبل الأمة، وكان جل همها تسيير البلاد من وراء مكاتبها، بعد أن تولت دور الجماهير الشعبية، بالإدارة والاقتصاد.
واجهت الوحدة أيضاً مزيداً من الصعوبات. كانت السلطة المصرية هي المسؤولة عنها، فأرسلت إلى سوريا مئات وربما آلاف الضباط والمدرسين والعاملين في الشؤون الأخرى، وعندما قدموا إلى سوريا، أخذوا يتصرفون بصلف وعجرفة، وكأن مهمتهم هي تطوير الشعب السوري ودولته ومنشآته الاقتصادية والاجتماعية، مع أن التطور في سوريا كان قد بلغ درجة هامة في سلم التطور العالمي، ويعود ذاك لانخفاض مستوى الوعي القومي والتقدمي لدى هؤلاء. وأمام صلف المبعوثين المصريين، نشأ حذر وتحفظ تجاه المدنيين منهم، وتجاه العسكريين أيضاً. والأسوأ من ذلك كله، أن الوحدة بقيت وحدة سياسية في أعلى الهرم السياسي والاجتماعي، ولم تتغلغل في الكيانين السوري والمصري، فلم يتم مثلاً توحيد أسس التربية ومناهجها والقضاء وقوانينه ومنظمات المجتمع المدني وقوانين التجارة الخارجية وسبل التعامل مع التجارة الداخلية وتطوير الصناعة والعلاقات الاقتصادية وإدارة الدولة عامة، فضلاً عن عدم توحيد المنظمات الشعبية كمنظمات الفلاحين والعمال والمدرسين والشباب وغيرها من المنظمات.
وفي الخلاصة نشأ نفور بين الشعب السوري ودولة الوحدة، ثم ازداد هذا النفور وخمد الحماس للوحدة أمام الواقع المرّ، وأخذت معظم الأحزاب تدير ظهرها للوحدة بما في ذلك الأحزاب القومية التي ناضلت منذ تأسيسها لتحقيقها. وأصبحت دولة الوحدة في القطرين السوري والمصري بدون جماهير، ولقمة سائغة للانتهازيين والوصوليين واللامنتمين لأي أهداف سياسية، ولبعض الضباط المغامرين، ولفئات في سوريا كانت ضدها دائماً، وقد تشجعت هذه الفئات ودفعت ضباطها ليقوموا بانقلاب يعلن انفصال الوحدة في 28 أيلول عام 1961، ولم تجد الوحدة مَن يقف بوجه هذا الانفصال من الجماهير أو من القوى الوطنية التي صنعتها، والتي كان يمكن أن تدافع عنها. وتم الانفصال خلال ساعات، فقد كانت الشروط الموضوعية التي أشرنا إليها ملائمة لمثل هذا الانفصال.
كان عبد الناصر زعيماً (كارزمياً) وربما لم يكتسب أحد من العرب مثل هذه الزعامة في العصر الحديث، وقد بلغت زعامته درجة أسطورية، وكانت تكفي إشارة منه لأبناء شعب أي قطر عربي ليثور ضد سلطته السياسية. وربما كانت هذه الشعبية والسمعة سبباً في أمرين، أولهما أن عبد الناصر لم يجد، مع هذه السمعة والتفويض الشعبي غير المحدود وحب الجماهير له، هو وأعوانه، ضرورة لاستشارة قوى اجتماعية متعددة أو أحزاباً لها تاريخها وجماهيرها وتجاربها، فحكم وحده بواسطة جهاز بيروقراطي متهالك كان يبدي دائماً إعجابه بالرئيس وبأكاذيب أخرى مماثلة. وعلى ذلك انزلق لحكم الفرد الذي له أعوان مخلصون له ليقود السلطة في سوريا ومصر، وأدى ذلك أيضاً إلى نشوء تناقضات فردية بين الأفراد الذي يحيطون به ويحكمون باسمه، فنُشرت مراكز القوى، وأخذت تتصارع على الحكم، ونسيت المهمات العظيمة لدولة الوحدة السورية المصرية، والمطالب الكبيرة لشعب هذه الدولة والحاجات المتعاظمة لإجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية داخل البلاد. والأمر الثاني أن عبد الناصر راهن أساساً على إيمانه القومي وإخلاصه للقضية القومية ونظافة يده وعمله المتواصل من أجل مصالح الناس. لكنه لم يمتلك النظرية الشاملة للتطوير وأساليبها وأدواتها خاصة، فبقي جهده الفردي فردياً، ولم يرق إلى درجة العمل الجماعي المنظم المدعوم بالجماهير الشعبية وبالفئات الاجتماعية المنظمة عامة، ومن المهم الإشارة إلى استنفار الإمبريالية العالمية في ذلك الوقت، وخشيتها من خطر الوحدة وأخطار التمدد الناصري وشعبية عبد الناصر، فأخذت تتآمر عليه في مختلف السبل والطرق، ولم تترك وسيلة لإضعاف دولة الوحدة إلا اتبعتها، فضلاً عن تآمر القوى الرجعية العربية التي اعتمدت السياسة الأميركية عليها لإضعاف دولة الوحدة.
كان قيام دولة الوحدة السورية المصرية تجربة هامة للعرب، فتحت أعينهم على أن أي وحدة تقتضي لنجاحها الاعتماد على الشعب ومنظماته السياسية والاجتماعية، وتعميق النظام الديموقراطي وإقامة دولة المؤسسات، وتأسيس وعي بمواطنة عربية رئيسة، تصلح لأن تكون مرجعية لأي دولة وحدوية مقبلة. والمهم أيضاً تجريد البيروقراطية من قوتها وعدم الأخذ بآرائها وممارساتها، فضلاً عن عدم تأسيس أجهزة أمن داخلي مهمتها مراقبة الناس وقمعهم وإقامة الدولة الأمنية التي لا تصلح إلا للقمع ونشر الفساد.
صحيفة السفير اللبنانية