الوحدة الوطنية الفلسطينية: مناورة تكتيكية أم خيار استراتيجي؟ (يزيد صايغ)
يزيد صايغ
في الثالث والعشرين من نيسان/أبريل، أعلن ممثّلون عن فتح وحماس، الحركتان اللتان هيمنتا على الساحة السياسية الفلسطينية طيلة عقود، عن محاولة جديدة لإنهاء العداء المرير بينهما منذ انقسامهما في حزيران/يونيو 2007. وبموجب بنود اتفاق المصالحة الذي وقّعتاه في غزة، سيتم تشكيل حكومة وحدة وطنية في غضون خمسة أسابيع، على أن تليها انتخابات رئاسية وبرلمانية في غضون ستة أشهر. وسيتم إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية واعتماد تدابير تؤدّي إلى تفعيل المصالحة المجتمعية واستعادة الحريات العامة.
بيد أن سجلّ المحاولات السابقة في بناء وحدة وطنية لايبدو مشجّعاً. إذ لم تشارك فتح وحماس قطّ في إطار مؤسّسي مشترك: لم تنضمّ حماس حتى الآن إلى منظمة التحرير الفلسطينية، التي هيمنت عليها فتح منذ العام 1969، ورفضت فتح الانضمام إلى حكومة الوحدة الوطنية التي عرضت حماس تشكيلها بعد أن فازت في الانتخابات العامة للسلطة الفلسطينية في كانون الثاني/يناير 2006. ولم يُنفَّذ اتفاقا المصالحة اللذان وقعتهما فتح وحماس في القاهرة في نيسان/أبريل 2011 وفي الدوحة في شباط/فبراير 2012، لأن أياً من الحركتين لم تلتزم بهما، حيث عانتا من غياب الإجماع الداخلي على المضيّ قُدُماً في تنفيذهما. ولعلّ هذا مايفسّر ترحيب معظم الفلسطينيين المشوب بالشك باتفاق نيسان/أبريل 2014 .
بيد أنه إذا ماتجلّدت فتح وحماس بالمثابرة، فإن لديهما فرصة للخروج من الطريق المسدود الذي علق به الفلسطينيون لسنوات. فمن شأن جعل الوحدة الوطنية أولوية كبرى وحقيقية أن يساعدهما على استعادة جزء كبير من شرعيتهما المحلية، وإنهاء انقسام السلطة الفلسطينية المنهك إلى حكومتين متنافستين في الضفة الغربية وقطاع غزة. فهذا هو مفتاح استعادة صدقية عملية صنع القرار الفلسطيني في عملية السلام المحتضرة مع إسرائيل، بهدف تحدّي احتكار الولايات المتحدة المشوب بالعيوب للوساطة الدبلوماسية وتمكين دور أوروبي أكثر حزماً، وإقناع الدول العربية المتشكّكة بزيادة دعمها السياسي والمالي للسلطة الفلسطينية لتعويض الإجراءات المضادّة الأميركية والإسرائيلية.
المهمة التي تنتظر الفلسطينيين شاقّة. ستكون التكاليف عالية ومباشرة والمكافآت غير مؤكّدة ومتأخرة. ومع أن العقبات تبدو كبيرة جداً فإنها ليست عصيّة على الحل. ولعلّ أولها وأكثرها تحدّياً هي العقبات الداخلية. فمن الواضح تماماً أن الاعتبارات قصيرة الأجل كانت دافع الموقّعين على اتفاق 23 نيسان/أبريل، ومن المحتمل أن يتخلّوا عنه حالما تتغيّر ظروفهم. وسيتعيّن على فتح وحماس أن تعملا بجدّ للبقاء على مسارهما الجديد، ويجب أن تكونا على استعداد لتقديم تنازلات كبيرة بشأن المصالح الأساسية والأجندات الإيديولوجية إذا ما أرادتا تحقيق الأهداف الوطنية.
يبدو التفكير التكتيكي لدى كلا الجانبين واضحاً. فحماس وحكومتها في غزة محاصرتان على جميع الجبهات. وقد أغلقت السلطات المدعومة من الجيش في مصر الحدود (والأنفاق من تحتها) تقريباً أمام حركة التجارة والمرور، ما أدّى إلى قطع المصدر الرئيس للإيرادات العامة والدخل (والسلاح) الذي كانت تعتمد عليه حماس للتعويض عن فقدان الدعم الإيراني وتقلّب المساعدة القطرية للميزانية والتنمية المدنية في غزة. وتواجه حماس أيضاً تحدّياً متزايداً من الجماعات الجهادية في غزة، غير أنها تخشى من تمرّد علني حتى في داخل صفوفها، إن هي مضت بعيداً في المصالحة مع حركة فتح أو تبنّت المفاوضات مع إسرائيل بصورة رسمية.
يوفّر التقارب مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي يتولّى منصبي رئيس حركة فتح ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية أيضاً، وسيلة لتخفيف هذه العزلة، والحدّ من التوتّر مع القاهرة والدول العربية الرئيسة الأخرى مثل المملكة العربية السعودية والأردن، وربما تحسين الظروف الاقتصادية، في حين ينزع فتيل استياء الرأي العام المتزايد في غزة. كما يسمح لحماس بتأجيل الخوض في مسألة حتمية حول ما إذا كانت ستعترف بإسرائيل باعتبار ذلك جزءاً لايتجزّأ من حلّ الصراع القائم على دولتين.
يجب على حماس أن تفكّر بما هو أبعد من المدى القصير. فهي لم تنجح في تخطّي الصعوبات في غزة إلا عبر إدارة الأزمات بصورة مستمرة، وذلك باستخدام التهديد بالهجمات الصاروخية لتثبيت الشروط العسكرية والاقتصادية لتعايش ضمني مع إسرائيل، والاعتماد على تفاهم هشّ مع السلطة الفلسطينية المنافسة في الضفة الغربية بهدف الحفاظ على تدفّق التحويلات المالية من الجهات الأجنبية المانحة. هذه الترتيبات معرّضة لانهيارات دورية، وتسمح لحماس وحكومتها بمجرّد الاستمرار. فقد ظنّت حماس أن الربيع العربي أنهى مأزقها الاستراتيجي بصورة حاسمة عبر إيصال الأحزاب الإسلامية الزميلة إلى السلطة في العديد من البلدان، وخصوصاً مصر، غير أنها مالبثت أن تلقّت صدمة قوية.
سترتكب حماس خطأً جسيماً آخر إن كانت تعتبر الآن أن اتفاق الوحدة الوطنية الذي وقعته في 23 نيسان/أبريل مجرّد أداة إنقاذ مؤقّتة إلى أن تغيّر بعض التطورات غير المتوقَّعة ظروفها الاستراتيجية مرة أخرى، فتسمح لها بالتصريح باستمرار صلاحية مقولة "المقاومة/عدم الاعتراف". غير أن هذه شعارات وليست استراتيجية.
على الجانب الآخر من الانقسام الفلسطيني، يستخدم عباس أيضاً حيلة تكتيكية مألوفة. فهو في حاجة ماسّة أيضاً لتحسين صورته الداخلية للتعويض عن عجزه الواضح بصورة محرجة عن وقف أو حتى إبطاء التوسّع العنيد للمستوطنات الإسرائيلية والتعدّيات الأخرى على الأراضي والموارد في الضفة الغربية والقدس الشرقية فيما الولايات المتحدة تراقب. كما يندرج الإعلان الرسمي في 21 نيسان/أبريل بأن المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية سيناقش حلّ السلطة الفلسطينية إذا لم يتم إحراز أي تقدم في المحادثات مع إسرائيل تحت عنوان التحركات التكتيكية.
غير أنه لاينبغي لعباس أن يستخدم المصالحة مع حماس فقط كمناورة تكتيكية لمواجهة الضغوط الأميركية لتوقيع اتفاقية إطار جديدة مع إسرائيل تقلّص ماهو معروض على الفلسطينيين إلى الحدّ الأدنى منذ البداية الرسمية لمفاوضات "الوضع النهائي" في العام 1999. وبالمثل، يجب أن يكون قراره بتقديم طلب فلسطيني للانضمام إلى خمسة عشر معاهدة واتفاقية دولية، وهو الطلب الذي وافق عليه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في 10 نيسان/أبريل، أكثر من مناورة تكتيكية أخرى إذا أريد له أن يتسم بالمصداقية ويكون فعالاً. فقد اعتادت الولايات المتحدة وإسرائيل على اعتبار عباس ضعيفاً ومتذبذباً، وهما تعتقدان أنه مامن خيار لديه سوى القبول بالشروط. أمله الوحيد لكسب النفوذ الحقيقي هو المساعدة في وضع الديناميكيات السياسية الفلسطينية على مسار جديد.
لهذا فإن عباس يحتاج الشراكة ليس مع حماس وحسب، بل أيضاً مع حركته، فتح، والتي لاتزال تأمل في إسقاط حكومة حماس في غزة. ومع ذلك، تم شلّ حركة فتح لسنوات بسبب المنافسات التافهة بين "قبائلها" العديدة، التي تحجب تنافسها على النفوذ والموارد بخلافات مفترضة حول التزامها بالقضية الوطنية. ويزداد تآكل مكانة وتماسك فتح بسبب الهجوم المعنوي العنيف الذي يشنّه رئيس جهاز الأمن السابق المنفي محمد دحلان، والذي يستغل رعاية دولة الإمارات ومصر له للقيام بمحاولة علنيّة كي يحلّ محلّ عباس.
تهدد الديناميكيات الداخلية على جانبي الانقسام الفلسطيني بجعل الأجندة الوطنية رهينة لتقلّبات السياسة العربية الإقليمية الأوسع في لحظة حرجة. غير أن هناك الكثير من الأمور معرّضة للخطر بالنسبة لفتح أو حماس إذا سمحتا لاتفاق الوحدة الوطنية بالفشل. ويجب أن يتحوّل مابدأتاه لأسباب تكتيكية ومصلحة ذاتية إلى خيار استراتيجي لايتزعزع. وهذا أمر ضروري إذا ما أرادت الحركتان والحكومتان المتحالفتان معهما مواجهة العقوبات المالية التي طبقتها إسرائيل والتي أوقفت بالفعل تحويل مبلغ 100 مليون دولار شهرياً من عائدات الجمارك والضرائب الأخرى المستحقة للسلطة الفلسطينية، والعقوبات التي يهدّد بفرضها حلفاء إسرائيل في الكونغرس الأميركي.
وتكشف حقيقة أن الاتحاد الأوروبي المنصاع عادة خالف الولايات المتحدة للترحيب باتفاق الوحدة الوطنية الفلسطينية عن المكافآت المحتملة التي يمكن أن يجلبها تبنّي اتجاه جديد في السياسة الفلسطينية. فإضافة إلى تأكيده على أنه لم يعد ممكناً اعتبار الولايات المتحدة وسيطاً نزيهاً، يمهّد الاتحاد الأوروبي الطريق لاستئناف تقديم المساعدات المباشرة إلى غزة، على الرغم من مشاركة حماس في حكومة الوحدة التي سيتم تشكيلها. أما الدول العربية التي فقدت الثقة في السياسة الفلسطينية بعد أن رعت عدة محاولات فاشلة للمصالحة – بدءاً من اتفاق مكة في آذار/مارس 2007 – فربما أصبحت على قناعة الآن أيضاً أن زيادة مساعداتها للسلطة الفلسطينية الموحدة وتقديم دعم قوي للدبلوماسية الفلسطينية في الأمم المتحدة أمر مبرّر.
ولكي يحقّق أي من هذه السيناريوهات النجاح، يجب أن تجعل حركتا فتح وحماس الوحدة الوطنية واقعاً ملموساً بكل وسيلة ممكنة. أولاً، يجب أن تكونا على استعداد لتقديم تنازلات متبادلة ذات مغزى بشأن المناصب الوزارية لتشكيل حكومة موثوقة سياسياً ومهنياً. ويجب أن تُخضِعا إدارة الأمور المالية والخدمات العامة للشفافية الكاملة والمساءلة المشتركة، حتى في القطاعات التي لايمكن إدماجها فوراً مثل الأمن. ثانياً، إذا منعت إسرائيل إجراء انتخابات رئاسية وعامة حرة في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهو الأمر المرجّح، فإن على السلطة الفلسطينية الموحدة إجراء انتخابات محلية في جميع المناطق الخاضعة لسيطرتها.
أخيراً، يجب على فتح وحماس تشكيل "كتلة تاريخية" يمكنها التفاوض على تحقيق سلام ملزم ودائم مع إسرائيل. ومامن شكّ في أن هذا هو الأمر الأصعب بالنسبة إلى حماس، التي لاتزال تختبئ وراء ورقة عدم الاعتراف بإسرائيل بينما تفوّض سلطة عباس للتفاوض معها. غير أنه يتعيّن على حركة فتح أيضاً أن تثبت استعدادها للمخاطرة بامتيازاتها المكتسبة لتمكين الدبلوماسية الفلسطينية وتحقيق حل الدولتين القابل للعيش، لاسيما من خلال الالتزام بالقيام بمقاومة غير عنيفة ومتواصلة لمواجهة حملة التوسّع الاستيطاني والسيطرة الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
هذا يشكّل فرصة لأي فصيل سياسي يريد تحقيق الأهداف الوطنية ليأخذ مكانه كقوة رائدة في المصير السياسي الفلسطيني، في المستقبل. والواقع أن إنجاز الوحدة، مهما كلّف الأمر، هو السبيل الوحيد لذلك.
صحيفة الحياة اللندنية