الوصف والهجاء والتأمل تصدرت مذاهبه
يؤكد د. أحمد علي محمّد في كتابه «قضايا الفن في الشعر العباسي»، أنّ الشعر العباسي يرصد حركة الحياة، ويتصل بها، وينجم عنها، ولهذا السبب صار عنصراً من حياة عصر، وكان، للمرة الأولى في تاريخ العرب، أن سار النقد الأدبي مع الشعر، لا يتأخر عنه ولا يتقدم، فإذا بالفن يرقى ويسمو.
والنقد يتطور ويعلو كعبه، والحياة تنبض بكلّ قوتها. إذ انفتح على ذاته ليتجاوزها، وأمعن النظر في هذه الذات لينزاح عنها، من أجل ذلك كثرت فيه صيحات التحديد، واضطرمت دعوات التفرد، ليكون شعراً خليقاً بالحياة وجديراً بها، واعياً إلى التعبير عنها، مشيراً إلى فضائلها، مندداً بمباذلها، محافظاً على جوهره ووجوده.
فإذا به يرسم حياة توازي الحياة التي تكتنفه، ويصطنع عالماً يضاهي العالم الذي يحتضنه، متخذاً مسارات لم تبرز كلّ هذا البروز لو لم تكن فريدة متميزة.
الشعر العباسي على غاية من التنوّع والاختلاف والتباين وكثرت فيه الأفكار، وتوسّعت فيه المعاني، وتناثرت فيه الموضوعات، كما تصارعت فيه الأساليب وتناحرت فيه اللغات، وتفجرت فيه التصاوير حتى بلغ حدا من التناقص، وبات كلّ شاعر أمة في الفن، لا يشاركه في سماته غير ذاته.
ولا يشبهه فيما ابتدعه من ظواهر غير نفسه، وكان من شأن النقد أن حفظ له هذه الخاصة الفريدة، وهو ذاته يقدر تلك العلامة الفارقة، والعرب منذ القدم تسم الرجل بما يفرقه عن سواه، وكلام أبي تمام «كلّ الناس أشعر الناس» تفي بمقصد هذا البحث وتزيد، لأن كلّ شاعر يتفرد عمن سواه بمعنى، صغر ذلك المعنى أم كبر.
يتعرض الكتاب لسيرة بشار بن برد، ويتابع أخباره فيرى فيها ما يصلح بالفعل لبيان ما يشف عنه شعره من فرائد تنهض حجة على جديده بصورة خاصة.كذلك ينبّه إلى ثورة أبي نواس، ويحاول أن يربطها بجملة من الأسباب الفنية، فإذا بثورته لا تعدو كونها دعوة إلى تجدّد الفن فصار أبو نواس مغيراً على قضايا فنّ ثبتت ظواهره، ليس مغيراً على ثقافة انتهت في مجملها إلى شخصه، فتصرف في التعبير عن الثوابت والمتحولات تصرف العارف الخبير.
ويتعرض الكتاب إلى مشكلة فنية في نتاج مسلم بن الوليد، ولاسيما ما اتصل بقضية الصنعة، والانتقال في مجال الأسلوب الشعري من التعبير العفوي إلى مجال تشوبه التعقيدات اللفظية، فإذا به يحاول إضافة معنى كلّ من شاركه فيه، ليصل بين الجزالة والزركشة، وبين القوّة واللين، وبين التقليد والتجديد ليكون شعراً مزيجاً من ظواهر متعدّدة، كانت فيها ألوان الثقافة الأدبية واللغوية واضحة.
ويتوقف عند الموضوع الاجتماعي في شعر أبن أبي السعلاة، محاولاً بيان الوظيفة الحيوية التي استجدت في العصر العباسي، من خلال الانصراف إلى نقد الأوضاع الاجتماعية السائدة.
ثم يركز الكتاب على ما تفرد به ابن يسير الرياشي في شعره الذاتي، ولا سيما ما اتصل بهجاء الحيوان.. وانحاز الكتاب إلى بيان تجاوزات أبي الخطاب البهدلي في رجزه وقصيده، ووقف على رمزية ابن العلاف في قصيدة قل نظيرها في الأدب العربي التي رثى فيها هرّاّ على جهة الترميز والإيحاء. ثم يتوقف عند أشعار المعري ..وغير ذلك الكثير من الاشعار التي تشتمل الرجز والوصف والهجاء.
صحيفة البيان الاماراتية