تتواصل «ظاهرة» التغييب المتعمَّد للنقد السياسي الذي مارسه الراحل إدوارد سعيد تجاه أخطاء القيادة الفلسطينية وتهافتها التفاوضي في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، الأخطاء التي نشهد اليوم أسوأ تجلياتها الكابوسية سياسياً وثقافياً ووجودياً. ورغم أن هذا النقد لا يزال حياً يرزق في الأكاديميا الفلسطينية في فلسطين التاريخية والشتات، وتعززه معرفة جذرية بالأطر النظرية والمرجعيات الثقافية المقارنة لأصلب أعواد الكنانة الفلسطينية مَكسَراً، إلا أن البعض يواصلون إعراضهم عن معرفة لا يعرفونها. ليس هدف الكتابة هنا «إحياء» الذكرى العشرين لرحيل سعيد أو «إماتة» الذكرى الثلاثين لتوقيع أوسلو، بقدر ما هو نقد استمرار تغييب هذا النقد عن ساحة النقاش في صفوف النخبة الثقافية الفلسطينية الراضية بخطاب السلطة وممارستها، أو التي تدافع باعتذارية سافرة عنها، أو التي تلتزم صمتاً مريباً حيالها، والمقتنعة، على ما يبدو، أنها لا تدافع عن مصالحها مع السلطة، بل عن المشروع الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي دفنته أوسلو عميقاً.
يمارس هؤلاء المثقفون انتقائية تشبه الفضيحة، ويواصلون هذا التغييب رغم عدم تحرُّزهم من اقتباس سعيد في محافل الفرجة، واقتناء كتبه، وإن وضعوا كتابيه «غزة-أريحا: سلام أميركي» و«أوسلو 2: سلام بلا أرض» (وأصولها بالإنكليزية) في رفوف لا تصادفها أعين زوَّارهم، ولا تطالها أيديهم، ولا تدركها ضمائرهم. فهم لا يحتاجون إلا النسخة المشتهاة والمنقَّحة ومقلَّمة الأظفار من سعيد: المثقف البليغ، عازف البيانو، ومتقمِّص أدورنو، وناقد كونراد، ومحاوِر تشومسكي، وصديق بارينباوم… يستدعون «الاستشراق» في أحاديثهم، ولا يعرفون جزأه الآخر «المسألة الفلسطينية» الذي نقد أوسلو قبل توقيعها بعشرين عاماً عندما انكسر العمود الفقري لحركة التحرر الوطني الفلسطيني في عام 1974 حين صارت «نسخة من الحركة الصهيونية، بعد أن كانت نقيضةً لها». يُعجبون بـ «المثقف والسلطة»، ولا يستدرجون ما فيه من نقد لصور المثقف من «انتهازية فاوست» إلى «انتحارية بندا» نحو بلادهم فلسطين… سمعوا بـ«المثقف اليهودي الأخير» الذي «لن يحظى الفلسطينيون بمثله عما قريب»، لكنهم لا يريدونه إلا وردة ثقافية على صدورهم، ليس إلا. هل يحبونه؟ بالتأكيد يحبونه «خارج المكان»… «يحبونه ميِّتاً»، مع الاعتذار لمحمود درويش.
على أي حال، كنت أرغب في تخصيص هذه المعالجة كاملةً لموقف سعيد من أوسلو ونبوءته حول مآلاته لولا حادثة «بيان العار». وهو عنوان الحملة التي شنَّتها المؤسسة الرسمية الفلسطينية وفواعلها الإعلامية والثقافية ضد «الرسالة الفلسطينية المفتوحة» التي وقَّعها الأكاديميون والمثقفون الفلسطينيون في 10 أيلول (سبتمبر) 2023 كموقف من خطاب الرئيس الفلسطيني المتلفز خلال انعقاد المجلس الثوري لحركة فتح في رام الله 24-26 آب (أغسطس) 2023 بخصوص المحرقة النازية، والذي سبقه تصريح آخر في برلين في 16 آب 2022 وصفته البروباغاندا الصهيونية والغربية أنه «فتح جرحاً عميقاً» في الذاكرة والمعاناة اليهودية، أي، فتح جرحاً في مرآة «الضمير الغربي» النرجسي الذي لا يعتبر النكبة أحد جروحه. لا متسع لنقاش الخطاب والرسالة، من حيث الفحوى والجدوى والزمان والمكان والحساسية، إلا بمقدار ما يقتضيه المقام لمثال حي على تغييب النقد السياسي الذي مارسه سعيد وتكريس شعبوية القبيلة السياسية المدمِّرة. وللتذكير، فقد كان نقد سعيد لأوسلو كمياً لا نوعياً (آخذاً في الاعتبار تحوُّلات موقفه من الدولة الديمقراطية، إلى الدولتين، إلى الدولة الواحدة «الحل السيمفوني») على ثلاثة مستويات: سياسي، وأدائي، وخطابي.
على المستوى السياسي، وبعد استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني عام 1991، رأى سعيد في أوسلو «فرساي فلسطينية»-معاهدة استسلام، وإعلان مبادئ بلا مبادئ قام على تغييب الحقوق السياسية التاريخية للشعب الفلسطيني لصالح حلّ عقدة «الأمن الإسرائيلية»، ووصفة مثالية لإصابة منظمة التحرير الفلسطينية بكل «أمراض السلطة» من فساد وبيروقراطية وخراب إداري وقضائي وتدشين أكبر شركة لمقاولات الأفراد (يعني مؤسسات السلطة وأجهزتها الأمنية). ولذا، فقد دعا إلى اعتبار «13 أيلول» يوم حداد وطني. أما على المستوى الأدائي، فاعتقد سعيد أن المفاوضين الفلسطينيين لم يمتلكوا الحد الأدنى من «المهارات» اللغوية والقانونية والتاريخية، ولم يسعوا لامتلاكها، مقارنة بنظرائهم الصهاينة. وأما على المستوى الخطابي، فوصف سعيد الخطاب الفلسطيني الرسمي في حفل التوقيع، وما تلاه، أنه خيانة للتاريخ. يقول: «ثمة رمز مثالي بالنسبة إلي، وهو التباين بين الخطاب الذي ألقاه عرفات في 13 أيلول [1993] والخطاب الذي ألقاه رابين. تحدثتُ مع محمود درويش حول هذا. قلنا إن من ألقى الخطاب الفلسطيني كان رابين. أما عرفات، فألقى خطاب رجل الأعمال، وشكر في نهايته الجميع، لا نعرف على ماذا، إذ ليس الأمر واضحاً تماماً. إن شناعة محو تاريخنا بقليل من التفاهات، مع العلم أن الخطاب الفلسطيني سابقاً كان يكتبه أشخاص كدرويش وآخرين… هو جزء من خيانة التاريخ هذه، التي تجعل من إعادة سرد الحكاية أمراً أكثر إلحاحاً».
ونتيجة لهذا الموقف النقدي، حظر وزير الثقافة الفلسطيني في آب 1996، وبعد قرابة أربعة أشهر من تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني في غزة، كتب إدوارد سعيد في «مناطق السلطة». ولكي تكتمل المفارقة، كتب الوزير نفسه لسعيد، بعد عام من ذلك، لإجراء ترتيبات لنشر كتبه الأخرى في «مناطق السلطة»!
من الواضح أن التاريخ لا يسجِّل كاريكاتورية الخطاب السياسي وحسب، بل يسجِّل كذلك تمرئي تلك الكاريكاتورية في الخطاب الثقافي. واليوم، في سياق «الخطاب» و«الرسالة» عن المحرقة اليهودية واللاسامية والنكبة، تعود إلى الواجهة هذه الحالة الصدامية بين السياسي والثقافي. بالتأكيد لا بد لأي نقاش جدي حول النصين أن يأخذ في الاعتبار الفحوى والجدوى والزمان والمكان والحساسية. لكن ذلك يحتاج إلى مناخ ثقافي وسياسي قابل للسجال بعيداً عن حملات البروباغندا الرديئة والتشبيح الخطابي المبتذل الذي يخلط الزوان بالحنطة. في هذه الحملة تُقترف، حرفياً، جريمة سياسية وثقافية بحق فلسطين عبر إصدار بيانات الدعم (لخطاب الرئيس) والإدانة (لرسالة المثقفين) والتقارير الإذاعية والمتلفزة التي تستدعي إلى الذهن تندُّر سعيد على مهارات المفاوضين ومهاتراتهم قبل ثلاثين عاماً.
مبدئياً، يمكن اقتراح ثلاث نقاط للنقاش: الأولى، تتعلق بدروس التاريخ المرتجلة التي يتبرَّع القادة الفلسطينيون في إلقائها على شكل تصريحات، أو خطابات رسمية دولية، أو محاضرات عامة في اجتماعات يفترض أن تكون خاصة. والثانية، تتعلق بالأدوات والمنابر والمواقيت التي يتوسَّلها المثقفون الفلسطينيون لتسجيل مواقف أخلاقية حيال جريمة المحرقة النازية في سياق الجريمة المفتوحة التي تشنها دولة المستوطنين «إسرائيل» على الفلسطينيين في حرب الإبادة والنكبة المستمرة التي لا ينبغي أن تقارن بالمحرقة نظراً إلى استمراريتها وعدم تحوُّلها إلى ذاكرة، كما يرشدنا إلياس خوري. والثالثة، تتعلق بضرورة خلق مناخ يتيح السجال، لا حول ثقافة المقاومة وثقافة الهزيمة، بل حول معنى فلسطين، هويةً وقضيةً، وخطاب الفلسطينيين المشتهى، بعيداً عن «كسوف فلسطين»، تاريخياً وجغرافياً، خلف ما تقرره الرسمية السياسية.
في هذا السياق، وقبل عام من الآن، كتب رائف زريق كلاماً من ذهب ناب به عن كثير منا. كتب نصيحة في هيئة صرخة، والصرخة في عرف من يعرفون أثمن من مليون نظرية، وأسمح لنفسي هنا بإعادة صياغتها: أولاً، إن أولوية العمل، في ما يتعلَّق بالمحرقة واللاسامية، يجب أن تستهدف إفشال المساعي «الإسرائيلية» في إلزام الأمم المتحدة بقرار يتبني تعريف اللاسامية الذي صاغه «التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)» لأن نجاح الصهاينة سيكون ضربة أكثر ضرراً بالقضية الفلسطينية من ضربة التراجع عن اعتبار الحركة الصهيونية حركة عنصرية في عام 1991. ثانياً، إنّ الأكاديميين والمثقفين الفلسطينيين الذين يعملون ليل نهار لتحقيق هذا الهدف، سواء في سياق حركة مقاطعة «إسرائيل» وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، أو خارجها، لا يتوقعون مساعدة من الرسمية الفلسطينية ولا من أجهزتها الديبلوماسية ولا أدواتها الإعلامية ولا مؤسساتها الثقافية، لكنهم لا يتوقعون كذلك التخريب على جهودهم من خلال تصريحات أو خطابات أو بيانات ارتجالية تلحق بقضيتنا ضرراً بالغاً. ثالثاً، إن اختلاف «مسارح» النقاش، فلسطينياً وعربياً وعالمياً، تحتِّم على الفلسطيني تحرِّي أعلى درجات الدقة التاريخية والنباهة السياسية والحساسية الأخلاقية التي ينبغي لجريح مبتور اليدين والقدمين أن يمتلكها وهو يجتاز حقل ألغام.
من هنا يبدأ النقاش. أما فرجوية التفحيط الإعلامي والثقافي، واتهام أفضل من أنجبت فلسطين معرفياً بالجهل بـ«الرواية الفلسطينية»، وخيانتها، والتماهي مع العدو، والعمل لصالح أجندات خارجية، ووصف ما صدر عنهم بـ«بيان العار» (على الرغم من اتساع هامش النقاش حول فحواه وجدواه وتوقيته، واتساع جغرافيا العار في الممارسات السياسية والثقافية في فلسطين)… فتلك كوميديا سوداء، ووفرة من الكلام الفارغ الذي لا يسعف المقام هنا في القول عليه. لا أتوجه بهذا النداء لموظفي الإعلام الذين يقرؤون تقارير لا يكتبونها، ولا لشخوص الثقافة والإعلام الرسميين الذين يكتبون بيانات لا يقرؤونها، بل لمن لا يزال يحترم معنى كونه مثقفاً يعرف من هو إدوارد سعيد ومن هو رشيد الخالدي، لكنه يختار خوض حرب استيهامية مع «ثورة مضادة» وهو ينتحل بعض صفاتها من الدوغماتية والدفاع عن السلطة لا عن الحقيقة.
في عام 1992، وانتفاضة الحجارة تحتضر على وقع «مؤتمر مدريد للسلام» وقناته الخلفية في «أوسلو»، نشر الراحل عبد اللطيف عقل «بيان العار والرجوع»، وكان من طبعه أن يقدِّم قصائده بمقولات سياسية لا تضر الشعر ولا تضير النثر. قدَّم ديوانه بقراءة في المعنى التاريخي للثورة وأهمية الفعل الجماعي الفلسطيني في مواجهة آلة المحو الصهيونية، ووصف قصائده بأنها حجارة يلقي بها «في وجوه بعض الشعراء والأدباء والمفكرين». واليوم، ما أحوج الفلسطينيين، وقد أحيوا قبل أيام ذكرى عقل، إلى عودة جدية لقراءة «بيان العار والرجوع» جماعياً عن نقد النقد.
صحيفة الأخبار اللبنانية