الولايات المتّحدة ومرحلة ما بعد الإسلام السياسيّ
هل انتهت حقبة الإسلام السياسي في الدول العربية بعد مضي 10 سنوات على “الربيع العربي”؟ وهل كانت مرحلة ضرورية لها ما بعدها من تغيير اجتماعي سياسي؟
ثمة كتابات عديدة تتحدَّث عن مرحلة ما بعد الإسلاميين وفشل جماعة الإسلام السياسي في ترجمة استلامهم السلطة في حكم فعّال، وتستنج أفول هذه التجربة. من المؤكّد أنّ مرحلة انفتاح الولايات المتّحدة على الإخوان المسلمين في مصر انتهت باكراً، بعد أن أشار الرئيس الأميركيّ السابق باراك أوباما علانيةً أمام مضيفه الرئيس حسني مبارك في العام 2009 إلى الاعتراف بجماعة الإخوان الذين تمتّعوا وجمعياتهم بتواجد قوي في الولايات المتّحدة الأميركيّة منذ فترة خمسينيات القرن الماضي، لكنَّهم لم يسجّلوا نشاطاً على الأرض إلا في الثمانينيات، واعتبروا أداة متقدّمة ورأس حربة في الشرق الأوسط لمواجهة الشيوعية والمد السوفياتي. ومع غزو أفغانستان، كان لا بد من استغلال هذه العلاقة من خلال الدعم الأميركي للمجاهدين الأفغان في العام 1978م، إذ مثّل الفكر الإخواني منطلقاً أيديولوجياً للكثير من هؤلاء المجاهدين، قبل تحوّلهم إلى مرحلة فكرية أكثر تطرفاً.
شهدت العلاقة تضارباً في الرؤى بين الولايات المتحدة والإخوان بعد غزو العراق للكويت في العام 1990م وما تلاه من نشر قوات أميركية على أراضي الدول العربية، وبعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001، إذ نظرت الولايات المتحدة إلى الإخوان بعين الريبة، ووضعت بعض منتمي الجماعة في قائمات الإرهاب. وقد عارض الإخوان الغزو الأميركي للعراق في العام 2003م. وبعد ذلك، عملت الولايات المتحدة على طرح سياسة جديدة للتصالح مع الجماعات الإسلامية التي تنبذ العنف، فرحَّب الإخوان بهذا السياسة الأميركية الجديدة.
حاولت جماعة الإخوان المسلمين الإثبات لصناع القرار في واشنطن، أنَّها وحدها، باعتبارها تيار إسلام سياسي معتدلاً، قادرة على التعامل في عالم السياسة ببراغماتية وفاعلية وتوحيد التيارات الإسلامية تحت لوائها. كانت تعلم أنَّ واشنطن مشغولة بالقضيّة الأمنيّة أكثر من انشغالها بالديمقراطية في البلاد العربية، وخصوصاً في فترة حكم الرئيس أوباما.
مع “الربيع العربي” في العام 2011، بدا أنَّ مصلحة الولايات المتحدة تكمن في الحفاظ على الاستقرار في مصر لمصلحة أمن “إسرائيل”، وكان الإخوان جزءاً من المعادلة السياسية فيها. تقاطعت في ذلك الوقت مصالح قوى دولية وإقليمية مع مصلحة الجماعة، لكنَّ الأمور أخذت مجرى آخر حين أخفق الإخوان في الخروج عن البنى التنظيمية والفكرية التي حكمت الجماعة، فضلاً عن عدم تمكّنها من إدارة ملفات الدولة المنهكة، وتحقيق طلبات الثورة التي جاءت بهم إلى سدّة الحكم، إضافةً إلى استعداء جهاز الدولة القديمة وفئات اجتماعية عريضة احتشدت ضدها لتسقطها في انقلاب عسكري في 30 تموز/يونيو 2013.
أما حركات الإسلام السياسيّ الأخرى، كحركة “النهضة” في تونس وحزب “العدالة والتنمية” المغربي، فقد أظهرا كثيراً من البراغماتية والمرونة التي ساعدتهما على أن يصبحا مكوناً أكثر تكاملاً في الأنظمة السياسية في دولتيهما.
قدم كلّ حزب دليلاً على المواقف المحددة التي قد تتّخذها المنظمات الإسلامية كأحزاب حاكمة، وتحديداً في مجالات الأيديولوجيا والتعددية وحقوق المرأة والأقليات. لم تحاول هذه الحركات تكريس الشريعة، وانخرط المعهد الديمقراطي الوطني الأميركي مع أعضاء حزب “العدالة والتنمية” المغربي في إقامة الندوات وورش العمل، وقدم مساعدته وخبرته لمساعدة الحزب على تعلم كيفية العمل بشكل أفضل داخل المؤسَّسات الديمقراطية.
من الجدير بالذكر أيضاً أن حزب “العدالة والتنمية” المغربي وحركة “النهضة” لم يقوما بدفعة جادة لمراجعة التشريعات القائمة أو مراجعة عمليات سن القوانين على أسس دينية. تبقى الحقيقة أنَّ حركة “النهضة” أفسحت المجال في النهاية لحكومة تكنوقراطية مراراً وتكراراً. ومن المحتمل أيضاً أن تكون المقاربات التصالحية التي اتخذها كلّ من حزب “العدالة والتنمية” و”النهضة” خلال النصف الثاني من العام 2013 متأثرة بشدة بسقوط الإخوان السريع من السلطة في مصر، إذ أدى الجيش دوراً سياسياً كبيراً كان عاملاً رئيسياً في كيفية تطور الأحداث هناك.
دعمت حركة “النّهضة” دستوراً يقبل فكرة الدّولة المدنيّة مع نبذ الإشارات إلى الشريعة وإلى إقامة دولة إسلامية كلاسيكية، الأمر الذي مكَّنها من النجاح في موازنة الجرعات الصحيحة من الإسلاموية والديمقراطية والتعددية والعلمانية و”التونسة”، إلا أنَّ حركة 25 تموز/يوليو التي قام بها الرئيس التونسي قيس سعيد، ونالت شعبية وسط الشباب في مواقع التواصل وفي تظاهرات ميدانية، فتحت سجلّ “النهضة” السياسيّ وتحالفاتها والصّراعات التي تعتمل في داخلها في ظلّ التدهور الاقتصادي والتنموي في البلاد، إذ تم فتح ملفات الفساد التي طالت القوى المتحالفة معها، في خطوة وضعت “النهضة” في مأزق بعد أن تراجعت شعبيتها الانتخابية.
وصل حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي المعتدل في المغرب إلى رئاسة الحكومة بعد احتجاجات حركة 20 شباط/فبراير 2011 المطالبة “بإسقاط الفساد والاستبداد”، لكنه سجّل هزيمة نكراء في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، إذ انخفضت حصّته من 125 مقعداً في البرلمان المنتهية ولايته إلى 12 مقعداً فقط في البرلمان المقبل.
ومهما كانت الاتهامات التي سيقت حول المال السياسي الانتخابي الذي اخترق به منافسه الساحة الانتخابية واعتُبر أحد أسباب الفشل، إلا أنَّ الاستقالة الجماعية للأمانة العامة للحزب وأمينه العام غداة إعلان النتائج، أكَّدت التراجع الكبير للحزب في قاعدته الشعبيّة، بسبب الانقسامات الداخلية الّتي أضعفته والممارسة الحزبية البيروقراطية وتراجع منظومته القيمية، عبر موافقته على قمع الحراكات الريفية وتعارض أقواله مع أفعاله من أجل الاحتفاظ بالسّلطة، إضافةً إلى قرارات وسياسات وجد نفسه مرغماً على اتخاذها في سياقات التصحيح الاقتصادي والإصلاح المالي.
هل انتهت حقبة الإسلام السياسي في الدول العربية بعد مضي 10 سنوات على “الربيع العربي“؟ وهل كانت مرحلة ضرورية لها ما بعدها من تغيير اجتماعي سياسي؟
لا شكَّ في أنَّ الأسباب التي أدّت إلى الفشل تعود إلى قصور ذاتي وعدم استعداد حقيقيّ لتولّي السلطة، وتمثّلت في اتّهامات لها بخطف “الربيع العربي” من أيدي الناشطين المدنيين الذين يتحركون اليوم تحت مسمى الحراك المدني في بعض البلدان العربية، وأسباب أخرى موضوعية تتمثل في التحولات التي يشهدها العالم والمنطقة، واتباع الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار ضرورة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق النساء ومبادئ الشّفافية والمحاسبة ودعم منظّمات المجتمع المدنيّ الّتي حملت لواء محاربة الفساد والتحديث، والتي تتلقّى التدريب والمساعدات.
تؤدّي وسائل التّواصل الاجتماعيّ دوراً في جمع المعارضين للسياسات التي تتبعها الأنظمة، وتقوم العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة في الضغط على الأنظمة وتعطيل قدراتها والمساهمة في تثوير المجتمع ضدها. لا يمكن القول إن الاسلام السياسي أفل، إنما يمكن اعتبار هذه المرحلة تجربة قاسية تحتّم إعادة النظر على الصعد الفكرية والأيديولوجية والسياسية، وتدعو إلى رؤية مختلفة إلى الواقع والمتغيرات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها العالم، ولا سيَّما أنَّ العمل على التنشيط الاقتصادي والتنموي يؤدي دوراً في استقطاب الشباب الذي يشكو من البطالة.
هذه العوامل تعتبر من أهم أسباب ضعف حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية التي ما زالت تقف عند حدود الأيديولوجيا، وليس العمل على السياسات، وتستعين بالريع بدل تفعيل الثروة البشرية والعمل على اقتصاد المعرفة وتبديل التحالفات التي تقتضي رؤية المصالح بعدسات مختلفة.