الوهابية والدولة التركية.. نزاع الوجود

للمشهد الديني التركي خصوصية تاريخية وعقائدية ومذهبية كبيرة، فهي الدولة التي احتضنت الخلافة الإسلامية -العثمانية- قرونًا تلو قرون، وكانت أولى الدول التي وقفت للمد السلفي الوهابي فكريًا وعسكريًا، حينما انطلقت الدعوة التجديدية السلفية بثيابها القائمة حتى يومنا هذا، على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب النجدي. انطلاقًا من ذلك ندرت الدراسات والأبحاث والتقارير التي تناولت فك الارتباط بين الدولة التركية -على مدار تاريخها منذ الدولة العثمانية وحتى قيام الجمهورية التركية– وبين السلفية، خصوصاً مع صعود السلفية بنسختها الراديكالية، ممثلة في تنظيم القاعدة في بداية الأمر، ثم المشهد الأخير الذي تبلور في تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام “داعش”.

العثمانيين أول المواجهين

كانت الدولة التركية القديمة -ممثلة في الدولة العثمانية- أولى الدول التي وقفت من السلفية في إطارها الماضوي غير التقليدي، موقفًا عنيفًا وناصبتها العداء، والتي كانت ممثلة -بشكل رئيس آنذاك- في سلفية الشيخ محمد بن عبدالوهاب النجدي، كنتيجة لما أثارته من لغط كبير وغير مسبوق في محيطها الجغرافي وخارجه، وخصوصاً أنها دشنت لتتعدى إطارها المحلي إلى الآخر الإقليمي، في إطار يمكن اعتباره أمميًا بالأساس، مما دفع بالدولة العثمانية القديمة في آخر قرنين لها إلى أن تسعى لوأدها في مهدها، وتحول بينها وبين تمددها، لشعورها بأنها تسعى لسحب الغطاء الشرعي عنها.

كانت هناك ثلاثة تيارات فكرية في الدولة العثمانية، من حيث التفكير والفهم الديني للنصوص حسب المصادر التاريخية، الأول: التيار الصوفي الذي يتمثل في الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الأندلسي، والثاني: التيار الذي يمثله عالم وإمام ومفسر شافعي هو فخر الدين الرازي، العالم الموسوعي الذي امتدت بحوثه ودراساته ومؤلفاته من العلوم الإنسانية اللغوية والعقلية إلى العلوم البحتة في: الفيزياء، الرياضيات، الطب، الفلك، والثالث: التيار السلفي الذي يتمثل في حركة “قاضي زادة ليلر” وعالم الحديث “أمام بركيوي” الذي عاش قبل مئة سنة من نشوء هذه الحركة.

هناك رؤية مفادها أن التيار السلفي ظل في الدولة العثمانية وبعد انتقاله إلى الجمهورية التركية الحديثة هامشيًا، وتعذر أن يحتل مرتبة متقدمة في الفكر الإسلامي. وعند النظر إلى العصور التي تشهد صعود السلفية إلى القمة، نرى أنها تصادف الفترات التي تتزامن مع انهماك الشرائح الشعبية من المجتمع في الأذواق، والتسيب الديني والأخلاقي وعدم الالتزام بمبادئ الدين، والتخلي عن العبادات إلى حد كبير، في عهد تراجع وسقوط الدولة العثمانية.

المواجهة الفكرية

وصلت أنباء صعود نجم الشيخ ابن عبدالوهاب ودعوته الجديدة إلى الوالي العثماني بمكة في ذلك الوقت: الشريف مسعود، والتفت إلى أن ثمة أمرًا دينيًا من شأنه أن يثير القلاقل على الحالة الدينية هناك، وخلق حالة من الفتنة التي قد تعصف بالوجود العثماني داخل الأراضي الحجازية، فبادر شريف مكة بمخاطبة الباب العالي، باحثًا عن حل سريع وناجز أمام هذه الظاهرة الجديدة التي تضرب أبواب ولايات الدولة العثمانية، في أشد المناطق حساسية وقدسية، لدى جموع المسلمين في أصقاع العالم.

لم تلجأ الدولة العثمانية العليا إلى الحل الأمني أو العسكري، إنما بادرت فور وصولها خطاب الشريف مسعود إلى حثه على محاورة الشيخ وأتباعه، عبر طرح الحجة بالحجة، وإقناعه بالعدول عن هذه الاجتهادات والوقوف على أبرزها. بالفعل تمت الاستعانة بشيخ الحرم المكي عثمان باشا لمساندة شريف مكة، لما كان له من رمزية دينية في أواسط المسلمين بين عامتهم وخاصتهم، على حد سواء. في موازاة ذلك، أرسل الخليفة العثماني محمود الأول جوابًا، أو ما كان يطلق عليه “الآمر السلطاني”.

وفي خضم التحولات التي انتابت الدولة العثمانية وشبه الجزيرة العربية، برز نجم الفتى عبدالعزيز الأول بن محمد بن سعود ومشروعه الدولاتي المغلف بالإطار الشرعي، الذي يستمد قوته من الشيخ محمد بن عبدالوهاب وأدبياته، تحت ما يسمى بالدعوة الإصلاحية في شبه الجزيرة العربية بأكملها، وبالفعل بدأت تتوسع الدولة الوهابية الوليدة وتواءمت مع المجتمع القبلي، وأصبحت حاضنة رئيسة له، فالتهمت الجزيرة العربية، وعبر المكون العشائري والقبلي تغلغلت في سوريا والعراق، وحتى في آسيا الوسطى خارج العالم العربي، وجنوبا حتى في عمان، وغربا في الحجاز، وشمالا في العراق، وشرقا في الأحساء.

تبرئة الوهابية من الخروج على الخلافة

ارتبطت الوهابية وشيخها محمد بن عبدالوهاب في الوعي الجمعي التركي القديم والحديث بالثورة والتمرد على الخلافة الإسلامية العثمانية، وأفاد العرض السابق هذه المساجلات والخطابات والتوصيات التي تبرز ذلك وتوضحه، وشغلت تلك الرؤية السلفيين المعاصرين والقدامى -كثيرًا- في محاولة لتبرئة الرجل وإخراجه من هذه الدائرة الشائكة التي تناقض دومًا روايات السلفية التي تشدد على عدم الخروج على الحاكم، فما بالك بالخروج على الخليفة الشرعي وخلافة إسلامية جامعة!

فلقد ذهب الشيخ عبدالعزيز عبداللطيف إلى أن رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب التاريخية لأهل القصيم، فيها ما يثبت عكس ذلك، فلقد شدد الشيخ على وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، برّهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة، وجبت طاعته وحرم الخروج عليه، مما يعنى أن الشيخ لم تكن دعوته لشق عصا الطاعة على الخليفة العثماني على الإطلاق، ولم يكتف الشيخ بذلك، بل أكد أن موطن الدعوة الوهابية كان خالياً من الوجود العثماني، فلم يكن بأي حال تحت سيطرة الدولة العثمانية.

إلا أن التحول الرئيس والمهم الذي لا يشير الكثيرون إليه من خلال الربط بينه وبين آل سعود، هو هذا التحالف والاتفاق الذي عقد عام 1744 مع أمير نجد محمد بن سعود، الذي رأى في الدعوة الجديدة فرصة للاستقلال عن الدولة العثمانية والحكم العثماني، وفيما بعد أخذت الدعوة بعدًا ومنحى سياسيين، وعلى الفور اكتسبت أتباعًا في شرق الجزيرة العربية، قبل أن تمتد تدريجيًا إلى الحجاز ما بين 1804 و1806.

وهذا يعني -إن جاز القول- أن الشيخ لم يخرج أو يتمرد على الخلافة -كما يشاع- إلا أنه كان أداة وظيفية في خدمة آل سعود في تحقيق هذا الأمر، وهو ما يجعله شريكًا أصيلًا لهذه الثورة السياسية والعسكرية على السلطنة العثمانية والخلافة الإسلامية، ولا يجعله بريئًا من ذلك، حتى وإن لم تكن نيته وأقواله جاءت صريحة في ذلك.

وتبعًا لذلك تمكن الوهابيون من الوصول إلى الحرمين في مكة والمدينة، عندما بلغت الحركة ذروتها في عهد سعود بن عبدالعزيز (1803-1814) في الوقت الذي عجز السلطان العثماني محمود الثاني خلاله عن التصدي للتهديد الوهابي، فبادر بطلب العون من والي مصر محمد علي، وبعد صراع طويل تكبد عبدالله بن سعود هزيمة ساحقة عام 1815 قبل أن يلقى القبض عليه ويتم إعدامه في إسطنبول سنة 1818.

المواجهة العسكرية

حاولت الدولة العثمانية مرات عديدة إيقاف توسع الدعوة الوهابية ومحاولاتها الرامية لتأسيس دولة، إلا أنها لم تنجح. المحاولات التي باءت بالفشل بدأت مع طريق ولاية العراق في حملة أولى قام بها ثويني بن عبدالله رئيس قبائل “المنتفق” على “القصيم عام 1786” ومعه جموع غفيرة من “المنتفق” وأهل “المجرة” و”الزبير” وبوادي “شمَر” وغالبية “طي”، ولكن فشلت حملته. وهناك محاولة جديدة قام بها ثويني نفسه بتجهيز من والي بغداد: سليمان باشا، ولكنه قتل، ففشلت حملته الثانية.

في هذا الوقت وجد العثمانيون هذه الآليات لا تحقق مطلوبا، ولا تقدر على النجاح، فتم التفكير في اتخاذ تدابير جديدة عبر استراتيجية مغايرة ومختلفة من خلال اعتماد الدولة على “الجيش النظامي”، فجهزوا حملة علي “كيخيا” التي “ضمت الجند المدرب والعشائر والأكراد وقبائل الخزاعل الشيعية”، ولكنها فشلت فشل الأولى والثانية، “وقد أدى هذا الأمر إلى اقتناع السلطات العثمانية في إسطنبول بأن العراق العثماني لا يصلح -بحال من الأحوال- أن يقود الحركة الهجومية العثمانية ضد الوهابيين، فتمت محاولة أخرى عن طريق أمراء “مكة” وكان على رأسهم “الشريف غالب”، الذي عزلته الحكومة العثمانية -فيما بعد- لتقاعسه في حرب الخوارج كما يفهم من نص خطاب السلطان محمود الثاني إلى والي مكة الجديد الشريف يحيى بن سرور.

خلاصة من بحث: مصطفى زهران ‘معارك وهابية مع الدولة التركية’، ضمن الكتاب 106 (أكتوبر 2015) ‘تركيا والإرهاب والأقليات النَّوعية’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى