
“سنين ومرّت زيِّ الثواني فحبّك انتَ”..
ربما تقول أم كلثوم هذه العبارة إشارةً منها إلى أن الأوقات الهنيئة في حياتنا تمرّ بسرعة كبيرة لا نشعر معها بقيمةِ الوقت الحقيقيّة.
بالنسبة إليّ ومع كلّ لحظة هانئة تمرّ في حياتي تتجدّد في داخلي القناعة التي تقول بأنّ هذه الأوقات لا تكتفي بكونها خفيفة لدرجةٍ تمرّ فيها ” زيّ الثواني” بل تذهب بحلاوتها وتأثيرها العميق في النفس إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إنّها تخشى أن يكون حملها ثقيلاً على ذواكرنا الملأى بالتفاصيل فتتّخذُ لنفسها مكاناً خاصاً فيها، لا سطحيّاً جداً فتتبخّر، ولا عميقاً جداً فتنطمر وتُنسى؛ مكاناً نديّاً، هادئاً، دافئاً، نستطيع معه مناداتها و استحضارها إلينا متى شئنا في رمشةِ عين واحدة.
إنّ الذاكرة البشريّة أمر مثير للدهشة حقّاً، من الناحية العلميّة يمكنني وصف ذكرى ما بأنها مزيجٌ معقّد من الروابط بين الخلايا العصبيّة الموجودة في أدمغتنا، تتشابك مع بعضها البعض لتكوّن لنا ترميزاً معيّناً يخصّ تلك الذكرى بعينها. وأمّا أدبيّاً فيمكنني تشبيه الذاكرة بموظّف مسنّ يجلس وراء طاولته في محل أنتيكا، عملُهُ الأساسي يتلخّص في تصميم إطارات مزخرفة للّحظات التي تؤثر فينا عميقاً ثمّ يعلّقها في قلوبنا لكي تظلّ حيّة تنبض مع كلّ نبضة. بالنسبة لي أجده يحاول بكلّ جهده أن يؤطّر الذكريات السعيدة بشكل أبهى من الحزينة، وبالتأكيد لا أستطيع سوى أن أكون ممتنّة فوق الوصف لذلك الأمر فما من أحد يحبّ أن يدقّ مسماراً حديداَ لذكرياته المؤلمة وسط قلبه ويعلّقها في إطار برّاق لا يمكن للعين أن تتجاهل وجوده مهما حاول ذلك.
في الحقيقة قد يكون سبب تلك الحالة هو طريقتي في التعامل مع تلك الذكريات أكثر من نوعيّة الذكرى بحدّ ذاتها، فأنا من المناصرين الأشدّاء لديستوفسكي في قوله: “الشتاء بارد على مَن لا يملكون ذكريات دافئة” ولهذا أحرص دوماً أن أعتني بالصور البرّاقة المعلّقة في قلبي جيّداً. تراني أمسحُ الغبار عنها من فترة لأخرى، أتأكّد من ثباتيّة توضّعها في مكانها، أنظّف زجاجها كي لا تفقد وضوحها، ولا أنسى أن أهمس لها بمدى حبّي لها وأنا أتأمّل تفاصيلها عن كثب.
تلك الطريقة تجعلني أطمئنّ إلى أنني سأجدها تمثلُ بين يديّ بسهولة متى احتجتُ للشعور الذي منحتني إيّاه، كما أنني أشعر بشيء من الرضا عندما أفكّر بأنه بإمكاني مناداة لحظة جميلة ما مرّت بي ذات يوم واستطعت أن أمنحها أحقّيتها في البقاء أو ربّما في الخلود داخل ذاكرتي في وقتٍ كان من الممكن فيه أن تكون مجرد لحظة عابرة لا تعني شيئاً.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة